شعر وحكاياتعام
القبيلة
بقلم / شيرين حسني
اتجهت الشمس نحو مغربها، وامتزحت خيوط الظلام بالنور، وطغى الليل على النهار، معلناً بداية يوم جديد. ينسلخ السكون عن أهل القبيلة، وتدب فيها الحياة ، بعد نهار ساكن في تلك المنطقة البعيدة عن العمران.
يسعى أفراد القبيلة كلُ إلى عمله. فمنهم من يذهب إلى الوادي. ومنهم من يذهب إلى الصحراء. من يهبط لباطن الأرض. ومن يصعد أعالي الجبال. ومنهم من ينتشر في أقرب القرى والبلدان.
بيوت القرية صخرية صغيرة ومتجاورة. بها فتحات للتهوية، ومداخل للحركة. تضاء بالمشاعل. ليس بها كهرباء أو مياة. أثاثها بسيط ومريح. ليس بها وسائل ترفيه، ولكن ما يحتاجونه يأتي إليهم بغمضة عين.
سكان القبيلة لا يقيمون للأعمار وزناً أشداء أصحاء متعاونون. يعرفون بعضهم البعض ويتزوجون من بعضهم البعض. لا يختلطون بالأغراب ولا يختلط الأغراب بهم .
ولأن لكل قاعدة شواذ قد يفر أو يستقر القليل من أفرادها في المدن المأهولة ليمتزحوا بسكانها ويعمروا بيوتهم.
ولكن مهلاً……………. يسترعي انتباهي حركة غير معتادة ويرنو إلى مسامعي أصوات همسات وهمهمات………صرخات وتوعدات.
تجمع مترامي خارح بيت كبير القبيلة. غايتهم الإطمئنان أو الإنتقام.
في وقت سابق من ذات اليوم،
يا سبحان الخلاق. فتاة يعجز الجمال عن وصفها. بيضاء كالثلج، ممشوقة كالغزال، ناعمة كالحية، وجهها وضّاء، وعينها سوداء، تكاد تتدفق من وجنتيها الدماء، شعرها طويل كشلال، متوهج كشمس النهار. تسير بنعومة كأنها تنساب على الأرض.
إلا أن ملامحها حزينة، شاردة الذهن، منكسة الرأس، زائغة النظرات، تنطلق دموعها كالبركان. هيئتها كجندي هارب من معركة غير متكافئه.
تتجه الفتاة إلى دارها ويزحف خلفها كل من يراها من أهل القبيلة، صغيرها قبل كبيرها ونسائها قبل رجالها. ينتابهم الفضول ويأكلهم القلق على ابنة زعيمهم ونوارة القبيلة.
تلج الفتاة داخل الدار وما أن تلمحها والدتها حتى تصرخ بلوع..
-نائلة يا ويلي ماذا حل بكِ يا ابنتي!!!
وهنا تنهار آخر قلاع مقاومتها لتسقط نائلة أرضاً كمن إنتٌزع منها فتيل الحياة.
….وعلى جانب آخر يقف زعيم القبيلة وسط قادة جنوده المسخرين لخدمته يستمع منهم لما شاهدوه وسمعوه. وكأن كلماتهم لعنات السماء تنصب على رأسه فتملأه شراسة ورغبة في الإبادة والإنتقام.
ووسط الهمهمات والتوعدات يخرج ميمون زعيم القبيلة، بطلهم المغوار ضخم الجثمان، أسود البشرة، غليظ الملامح،وعلى وجهه أقصى علامات الغضب. ينطلق الشذر من عينيه ليحرق ما يصيبه. يملؤه الحقد والغل ويعلنها مدوية بصوت أجش:
— سأنتقم منهم جميعاً لن يهنأ لهم بال أو يغمض لهم جفن بعد اليوم سأملأ الليل بصراخهم والنهار بدمائهم لن يرحمهم أحد من غضبي.
وقبل أن ينتظر رداً أختفى في الحال وتركهم آملين أن يشفي ذلك صدورهم ويطفئ قليلاً من غلهم.
وأسرع خلفه أعوانه ومساعديه دون استفسار عن وجهتهم أو خطتهم خوفاً منه…….ربما. لكنهم مشحوذين عزيمة لما أصاب هيبتهم وهيبة زعيم القبيلة.
تدخل بعض الفتيات والسيدات البيت للإطمئنان على نائلة.
نائلة التي غابت عنهم كثيراً منذ أن رأت صلاح حينما حضر مع أصدقائه في رحلة للتخييم بالقرب من منطقتهم. فوجدت نفسها منحذبة إليه وتهيم به عشقاً ولا تبالي بإعتراضات أسرتها أو أعراف قبيلتها.وتقرر الفرار خلفه والبقاء بجواره.
شهور مرت وسنوات لا تصل أخبار عن نائلة إلا ما يتناقله على استحياء أعوان ميمون وخدمه.إلى أن شاهدوها اليوم. وتعجبوا بشدة لما آل إليه حالها.
جلست الفتيات بجوارها يشددن من أزرها، ويخففن من وطأة كبدها. وما إن هدأت نائلة قليلاًلم تجد بد من الحديث أمام نظرات والدتها وتساؤلات صديقاتها:
— مذ رأيته كبلني حضوره، وأسرتني نظراته. لم أفق إلا وكلي هياماً ورغبة في وجودي معه.لم أكف عن عشقه. قدمت له ما أستطيع لأجعله لي وحدي أميراً متوجاً على عرشي.لم أدع له فرصة أن يري أو يسمع أو يشعر بأي أنثى حتى اصبحن كالمسوخ أمام عينيه.
كنت له كل النساء في جسد، وكل المشاعر في قلب. حققت مأربي وسكنت جسده وقلبه وعقله. كنت له الدم ينساب في عروقه والهواء يسري في صدره.
كان يقضي النهار شريداً والليل وحيداً حتى نلتقي فتفيض المشاعر لتطفئ نار الحرمان.
وتمر الأيام والشهور في سعادة وهدوء لا يعكر صفوها سوى تدخل والديه في شؤننا وحديثهم عنه كل ليلة كيف أهمل نفسه وترك عمله وانصرف عن أهله وأصدقائه. لا يترك منزله ولا يبرح حجرته.
سخرت منهم كثيراً وتأففت لأفعالهم فهم تارة ً يأخذوه لطبيب نفسي وأخرى يباركوه في المساجد. كنت أخبرهم أنه بخير فليدعوه وشأنه.فهو أصبح لي،أصبح ملكي.ولكنهم لم يكونوا ليسمعوني أو حتى يشعروا بي.
واليوم انتبهت على رائحة غريبة ودخان يأتي من خارج الحجرة. وإذا بصوت جهوري يناديني بإصرار فحضرت على مضض لأجد صلاح يجلس خائر القوي حائر النظرات ومرتبك القسمات. وبجواره والداه ( يالهذين الوالدين لا يلقوا بالاً بسعادة ولدهم ويبذلون جهدهم لشقائه وتعاسته كيداً لي وانتقاماً مني).
يتوسط الجلسة شيخ كبير وقور الهيئة حاد القسمات ذو لحية بيضاء ويرتدي جلباباً ويضع أمامه كتاب.
استنبطت الأمر لقد أعدوا العدة للتخلص مني. لا يرغبوا بوجودي معه. يريدونا أن ننفصل إلى الأبد، أن يأخذوه مني ويأخذوني منه.سأجعلهم يندمون ولكن…بمن أستعين وقد فررت من قومي لأجله.إذن لأهرب منهم أيضاً حتى تهدأ الأمور. وقبل أن أقدم على ذلك شعرت بشئ يمنعني ويمسك بتلابيبي. إنه الشيخ عبد الدايم بنظراته الحادة وحضورة الطاغي.وبدد الصمت بصوته الحازم:
–ماذا تريدين منه لقد أصبح حاله من سئ لأسوء اتركيه واذهبي عنه.
_إني أحبه ولن أتركه هو لي ولن يكون لغيري.
–لقد إنتهى ما بينكما الأن فلتذهبي لحال سبيلك، انصرفي ولا تعودي هنا مرة أخرى.
وصار يفتح كتابه وأنا لا أريد التصديق ولا أستطيع التفكير. تبادل والداه نظرات الأمل والفرح.وصلاح ساكن لا ينطق ولا يحاول التمسك بي.ترك لهم زمام أمره كما يتركه الوليد لأمه. هل ذاك ما تركت أهلي وجاهي لأجله. لأجل حبه.
صرخت وتوعدت فتوسلت ليدعوني لشأني.
_سأفعل كل ما تريدون لتتركوني.
لم يرقوا لحالي أو يلينوا لتوسلاتي.وأتم الشيخ عبد الدايم إجراءاته وانتصروا علي.طردوني شر طردة وهددوني إن عدت ستكون نهايتي، وسيقضون علي.
فلم أجد غير الإنصراف سبيلاً ولم أجد غيركم ملجأً.
أتمت نائلة حديثها وتسقط عبراتها التي تحرق شفا جفونها وسط نظرات الغل والحقد وشعاع من الشوق والحنين في مزيج قلما يجتمع ف العيون.
وتلمح على غير إهتمام نظرات الشفقة في عيون المحيطين. ولم تهتم… وبما !!! بعد ما عانت وهانت.
ومرت دقائق طويلة من الصمت لم يكسر حدتها سوى حفيف حماة القبيلة العظام جنود ميمون وأذرعة عائدون معه من معركة الإنتقام. وما أن يشعر بهم القوم حتى يقبلوا مهللين من كل حدب وصوب وعلى رأسهم نائلة ووالدتها وصديقاتها. ولكن ما إن يروا مشهد العودةحتى فغرت أفواههم دهشة وخفقت قلوبهم خيفة. فهم يشاهدون أكبر مخاوفهم متجسداً في صورة.
فها هو ميمون وجنوده منكسي الرؤوس قامتهم مهدلة وهيئتهم مهلهلة يجرون أطرافهم ويحملون ذلهم.
طافت الأسئلة بالعقول لا تقوى على الإنطلاق حتى لا تصدم بالتوقعات. وقبل أن يستفسرون هزموهم بقولهم :
–وجدناهم بآيات الله منا يتحصنون.
بسم الله الرحمن الرحيم
( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ )
صدق الله العظيم
تمت