كتبت/ فاطمة عبدالحميد
لا شك أن هناك فنانين ظلمهم الفن رغم ثرائهم في عطائه، فلم يجدوا من الشهرة ما يستحقوه، وهناك من نعرفهم لظروف شخصية وأزمات خاصة وعقبات واجهتهم خلال مسيرتهم، فمنحتهم تلك الظروف والعقبات من الشهرة والمعرفة ما لم تستطع ذخيرتهم الفنية أن تفعله، لذا سنتطرق للحديث معكم في هذا المقال عن فنانة من زمن الأبيض والإسود، اشتهرت بضحكتها المبهجة، مرت بعدة مفارقات جعلتها محط الأنظار والإهتمام من قِبَلْ الصحافة حينها، إنها الفنان “نجوى سالم”.
ربما لم تكن نجوى سالم صاحبة أدوار متميزة وقتها لتنال هذا الكم من الشُهرة، فهي فنانة كوميدية خفيفة الظل، لم تأخذ المكانة التي تستحقها بسبب أزماتها النفسية التي أثرت على مشوارها الفني، وعلى رأسها ديانتها اليهودية التي سببت لها عقدة طوال حياتها، ودخولها المصحات النفسية أكثر من مرة، إلى جانب زواجها الذي أخفته لمدة 17 عامًا، ولم يعُرف إلا بعد وفاتها، كانت محطات هامة وملفتة لأنظار الجميع.
_نشأة نجوى سالم
اسمها الحقيقي “نظيرة موسى شحاتة”، و” نينات” اسم الدلع الذي اشتهرت به بين الأقارب والأصدقاء، وُلدت فى 17 نوفمبر عام 1925، تنتمي لأب لبناني يهودي وأم إسبانية يهودية، ولها شقيقان هما شارل ويوسف، حصلت على الجنسية المصرية بعد حصول الأبوان عليها، نشأت نظيرة أو نينات في أسرة فقيرة، كان والدها صاحب محل أحذية، وبسبب ظروفهم المعيشية الصعبة توقفت نينات فى تعليمها عند المرحلة الابتدائية.
_حياتها الفنية
كشفت نينات في حوار قديم لها عن مدى ما لعبته الصدفة حول دخولها مجال الفن، فقالت: “كان بيتنا مجاورا لمكتب متعهد الحفلات المشهور “فيتسايون”، الذي جاء لأسرتي ذات يوم ببون مجاني لحضور أحد العروض بمسرح الريحاني، وكان نجيب الريحاني يقدم وقتها مسرحية حكاية كل يوم، وفي نهاية المسرحية طلبت من فيتسايون أن يقدمني له، وبالفعل ذهب إليه، وقال له أني معجبة بالتمثيل، وأريد الالتحاق بفرقته، فضحك الريحاني وقال لي أنت لسه صغيرة يا شاطرة ما تنفعيش، فقد كنت حينها في الثالثة عشر من عمري، ولكني لم أشعر باليأس، حيث واظبت على زيارة الريحاني كل أسبوع، حتى ضج مني، وألحقني في النهاية بفرقته كهاوية، وظللت عامًا كاملاً بلا مرتب، ثم قرر لي أربعة جنيهات في الشهر مع بداية عامي الثاني مع الفرقة، وأعطاني اسم فني هو نجوى سالم”.
مقالات ذات صلة
واستمرت نجوى سالم في لعب الأدوار الصغيرة التي تُسند إليها، إلى أن لعب القدر لعبته مرة أخرى وسنحت لها الصدفة في إعطائها البطولة أمام نجيب الريحاني، وذلك حسبما كشف الكاتب سليمان الحكيم في كتابه يهود لكن مصريون “في إحدى الأيام مرضت بطلة الفرقة ميمي شكيب قبل حفل افتتاح أحد العروض المسرحية التي تقدمها الفرقة، فحدثت أزمة كبيرة، وكاد نجيب الريحاني أن يلغي حفل الافتتاح، فاقترح عليه أحد العاملين بالفرقة إعطاء الفرصة لنجوى سالم، تردد الريحاني في البداية، ثم سأل نجوى سالم إذا كانت تستطيع أداء دور ميمي شكيب، ففاجئته بأنها كانت تتابع ميمي شيكيب أثناء البروفات، وتحفظ الدور جيدًا، فوافق على قيامها بالدور، وأدت نجوى سالم الدور على أحسن ما يكون، مما أسعد نجيب الريحاني، وأصبحت بعد ذلك واحدة من نجمات فرقته”.
ويبدو أن العلاقة بين نجوى سالم ونجيب الريحاني تطورت لتتحول إلى علاقة حب، كما أكد زوجها عبدالفتاح البارودي في حوار قديم، أن الريحاني طلب الزواج منها، ولكن منع زواجهما شيئان، الأول ديانتها، حيث كانت تدين باليهودية، بينما الريحاني مسيحي الديانة، الأمر الآخر أنه اشترط عليها اعتزال التمثيل، فرفضت بشدة، وقالت له أنها تزوجت المسرح ولا تستطيع أن تجمع بين زوجين في آن واحد، كما لا تستطيع أن تطلق المسرح الذي تعشقه أكثر من حياتها ذاتها.
لكنها لم تترك الفرقة حتى بعد رفضها الزواج من نجيب الريحاني واستمرت في العمل معه حتى وفاته، بعدها عملت مع بديع خيرى، وقدمت أجمل المسرحيات الكوميدية، حيث امتازت بخفة الظل، وكان لها طريقة مميزة في الأداء، ومن المسرحيات التي قدمتها في تلك الفترة “ياما كان في نفسي، و لو كنت حليوة، و حسن ومرقص وكوهين، بالإضافة إلى مسرحيتها الأشهر إلا خمسة مع عادل خيري، وماري منيب وسعاد حسين” ، ورغم نجاحها في الفرقة، إلا أنه حدث خلاف بينها وبين بديع خيري، فتركت الفرقة، وعملت مع فرق آخرى، وقدمت مسرحيات عديدة نذكر منها “ذات البيجاما الحمراء” مع عبدالمنعم مدبولي و أبو بكر عزت و عقيلة راتب، و”لوكاندة الفردوس” مع عبدالمنعم مدبولي و أمين الهنيدي، وغيرها من المسرحيات.
وقدمت مسلسلات تليفزيونية عديدة مع بداية نشأة التليفزيون منها “مذكرات زوجية، والعابثة، وغارة زوجية” ، أما في السينما فقدمت مجموعة من الأفلام منها “ملك البترول، وحياة عازب، وإسماعيل يس في دمشق، وشمشون ولبلب، وفايق ورايق”، وكانت تقدم في هذه الأفلام أدوار الفتاة خفيفة الظل، والخادمة التي تثير المشاكل، والفتاة “العبيطة” التي لا تفهم شيئًا.
_أزمات واجهتها
وفي خطوة جريئة وقرار مصيري من نجوى سالم قررت أن تنشئ مسرحية خاصة بها في بداية السبعينات، وأطلقت عليها اسم فرقة نجوى سالم، وكانت البداية من خلال مسرحية “موزة” و”3 سكاكين”، ولعب البطولة أمامها عماد حمدي، وقد حققت المسرحية نجاحًا كبيرًا، ثم توالت العروض المسرحية، إلا أنها ما لبثت أن واجهت أزمة مادية كبيرة، فقامت برهن محتويات شقتها، ولكنها بعد فترة عجزت عن فك الرهن، كما عجزت عن دفع إيجار الشقة لمدة 3 أشهر متوالية، فاضطرت في النهاية أن توقف نشاط الفرقة.
ثم توالت الأزمات بعد وفاة والدة نجوى سالم التي كان شديدة الارتباط بها، فعانت كثيراً ومرضت ودخلت مستشفى “بهمان” للأمراض النفسية والعصبية، وظلت في المستشفى فترة، حيث كانت تعاني من عقدة الاضطهاد، وكانت دائمة الشكوى من أن المخرجين يتجاهلونها، ولا يسندون إليها الأدوار التي تناسب إمكانياتها الكبيرة، كما أنهم يضعون اسمها بعد أسماء من هم أقل منها خبرة، ولم تكن تلك العقدة الوحيدة التي عانت منها، فكانت تشعر دائما أن هناك من يرغبون في موتها لكونها يهودية، رغم أنها أشهرت إسلامها عام 1960، وقد وقف المسئولون بجانبها خلال تلك الأزمة، وتم علاجها على نفقة الدولة، حتى تماثلت للشفاء، وعادت للعمل مرة آخرى.
_الطيبة والإنسانية
ومن الجدير بالذكر ويسطره التاريخ ويدونه في كتبه أن تلك الفنانة رغم تلك المفارقات التي جعلت الحزن والمأساة يملأن حياتها إلا أنها لعبت دورًا وطنيًا لا ينسى بعد نكسة 67، وقدمت مع فرقتها عروضًا على الجبهة في منطقة قناة السويس، ولهذا حصلت على درع الجهاد المقدس تقديرًا لدورها الوطني الكبير، وبعد نصر أكتوبر دعت أبطال حرب أكتوبر لمشاهدة مسرحيتها “ممنوع لأقل من 30″، وكانت تقف كل ليلة مع أعضاء فرقتها ليستقبلوا ضيوفًا من أبطال أكتوبر بالزهور والتصفيق.
للمزيد
ومما يخلد في ذاكرة التاريخ أيضاً أنه رغم ما عُرف عن نجوى سالم من وطنيتها وحبها لبلدها، إلا أن إنسانيتها ووفائها الشديد لزملائها وأصدقائها لا يوجد له مثيل، ومن القصص المعروفة في الوسط الفني وقوفها بجانب الفنان عبدالفتاح القصري في محنته التي مرّ بها، فكانت الفنانة الوحيدة التي زارته في مرضه الأخير، وكانت تدعو زملائها والدولة لرعايته وعلاجه، كما كانت الفنانة الوحيدة التي حضرت جنازته، وليس عبدالفتاح القصري فقط فكانت تقف بجانب أي فنان يتعرض لمحنة، ومن الحكايات المعروفة عنها أيضًا، وتدل على طيبة قلبها الشديدة، قيامها بدعوة أكثر من 800 من مرضى المستشفيات الخيرية لمشاهدة المسرحيات التي تقدمها فرقتها، كما كانت تطوف بفرقتها المسرحية على المستشفيات للترفيه عن مرضاها.
_عذراء في الظاهر..زوجة حسناء في الباطن
كرمها الرئيس السادات في عيد الفن، -وكانت حينها مرتدية فستان فرح- فصاحت قائلة عند استلامها الجائزة ” النهاردة زفافي، أنا اتجوزت الفن، أنا ماتجوزتش لغاية دلوقتي لأني اتجوزت الفن”، ولكن المفارقة التي صدمت الجميع هنا أن هذا لم يكن صحيحًا، لأنها كانت متزوجة منذ عام 1970 من عبدالفتاح البارودي الناقد الفني بجريدة الأخبار، وظل الزواج قائمًا لمدة 17 عام حتى وفاتها، ولم يعرف أحد بتلك الزيجة إلا عقب وفاتها، حتى أعلن البارودي في حوار صحفي عن قصة زواجهما السري، فقال: ” عام 1960 استدعاني عبدالقادر حاتم، وأخطرني بقرار ترشيحه لي مستشارًا له، وعندما توليت هذا المنصب جاءتني ذات يوم نجوى سالم تشكو من بعض المضايقات التي تتعرض لها في عملها، ومن هنا جاء تعارفنا وحدث التقارب، وبدأت تكثر من زيارتها لي، وفي كل مرة كانت تقترب مني أكثر واقترب منها أكثر، كلانا كان يستريح وهو يحكي للآخر عن حياته وهمومه وأسراره، أحسست أني أمام أجمل وأرق امرأة في العالم، وأن نجوى سالم ليس لها فرع آخر في دنيا المرأة، قمة الدلع على خشبة المسرح، وقمة العفاف في حياتها الخاصة”.
إقرأ المزيد
إلى أن فوجئ في عام 1970 بعد عشر سنوات من الصداقة والحب بنجوى سالم تسأله عن رأيه في الزواج منها، الأمر الذي أسعده كثيرًا بسبب حبه الشديد لها، وبالفعل تم الزواج الذي طلبت نجوى سالم أن يكون سريًا، ووافق البارودي على هذا الطلب، وعاشا معًا حياة سعيدة، وأضاف عن حياتهما بعد الزواج: ” كانت تجهز لي الطعام في مواعيد دقيقة، ولم أجد يومًا من صنوف الطعام صنفًا لا اشتهيه، تختار لي ملابسي بعناية فائقة، باختصار لم تقل نجوى سالم الزوجة عن نجوى سالم الفنانة عن نجوى سالم الحبيبة، امرأة من طراز فريد”.
_رحيلها
وأخيراً وبعد أن عاشت نجوى سالم سنواتها الأخيرة بعيدة عن الفن شعرت بالتعب في أحد الأيام، فذهبت للمستشفى برفقة عبدالفتاح البارودي، ولم يعرف أحد أنه زوجها، حيث كانت ترافقه دائماً وتقدمه على أنه أحد أقربائها، ولم تمض ساعات قليلة على وجودها بالمستشفى حتى رحلت في هدوء في يوم 12 من مارس عام 1988, عن عمر يناهز 63 عامًا، ودفنت في مقابر البساتين بالقاهرة، لينتهي مشوار تلك الضاحكة على الشاشة، الباكية خلف الكاميرات، العذراء أمام عيون الجماهير، المتزوجة وراء الأضواء، المحبوبة بطيبتها وإنسانيتها لدى الجميع، المضطهدة في خيالها وكما خيّلت لها الظروف.