الثورة المجهضة ..
بقلم الكاتب محمد فخري جلبي
ننتقل من جوع إلى جوع ، من موت إلى أخر، من مدينة إلى أخرى ، من هزيمة إلى هزيمة ، نصعد أدراج مآسينا عنوة نصفق للقائد عنوة .
عابرون نحن من عصور الدم في أوطاننا إلى عصور الملح في المنافي الشاسعة الواقفة خلف باب الوطن الصغير ، هناك حيث تقف الدبابات والعربات المجنزرة والقرارت الدولية ومندوبي الموت والأمم المتحدة ينتظرون دورهم للدخول لأداء أدوارهم في مسرحية البؤساء . ومن الضروري تشخيص الواقع لبدء محاولة العلاج أو للقيام بعملية بتر على أبعد تقدير ، حيث كانت جوهر المشكلة التي نواجهها وتواجهنا هي نقص جزئيات الحرية بل أنعدامها الكامل في محيطنا الأجتماعي .
فتجرأنا لطلب جرعات صغيرة من الحرية لكي يتعافى منسوب كرامتنا الملقى على سرير العمليات ، وبالأخص عقب مرور قطار الثورة بالمحطة التونسية والمصرية والليبية فأستبشرنا خيرا وتنفسنا عليل الحرية وللمرة الأولى . في تلك المرحلة كانت ردة فعل النظام الحاكم قاسية جدا وتفوق الفعل بعدة أشواط، فجوبهنا بالرصاص والسكاكين وأعتلى منصة الشعب أكثرنا حماسا وحبا للوطن المقيد بأغلال العبودية الحريرية ، وهتفنا كما لم نهتف من قبل وأندفعت كريات الدم في شرايننا كما لم تندفع من قبل غير مبالية بالمخبرين وبالبنادق الموجهة نحو صدرونا العارية وبالأقمار الصناعية غير مكترثين بأقبية التعذيب وأفرع الأمن .
تلك كانت المرة الأولى التي نشعر بأننا متواجدون على هذه الأرض خطواتنا أنفاسنا حريتنا آرائنا نزواتنا أخطاءنا حسناتنا سيئاتنا كل شيء لنا هو لنا ، ورغم عنف مالاقينا وفظاعة ماحل بنا وبالوقت ذاته كنا نشعر بسعادة بالغة وبعنفوان متفجر ، حيث كان الصبر والإيمان حجرا أساس ضمن مسيرتنا نحو الشمس نحو الضوء نحو الله . ولكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن (الرياح الأصطناعية بفعل الظلاميبن ) فمالبثت الشمس أن أصبحت أشد ظلمة والضوء بدأ يخفت والقدر تركنا لمصيرنا المأساوي نقاضي به أنفسنا بأنفسنا . ويجدر الأشارة هنا بأن النقطة المفصلية بتغير مسار الثورة هو عودة أولئك الطفليين العابثين بأوجاع الشعوب الذين كانوا يقتاتون على فتات موائد أجهزة المخابرات الغربية والمنظمات الأجتماعية ، المنبطحين المعكوفي الهوية والأرادة العديمي الأنتماء ، عندما عاد أولئك وأبتاعوا مكبرات الصوت الأمريكية وأستأجروا المنصة ببضعة أكياس رز وحفنة شاي مستورد ، وبادىء ذي بدء أستثمروا صحوة الشعب وأمتطوا صهوة التغير وأستمروا بالتنظير والتحليل وتقديم السلاح للمشكوك في غاياتهم !!
فبدأت النكسة تدق أبواب الثورة وغادر أولئك ترافقهم عربات الأمم المتحدة مدججين بعناوين الفنادق وشيكات الأرصدة البنكية والهواتف النقالة المتصلة مياشرة مع القادة الفعليين للثورة ، ومضت عربة الثورة من زقاق إلى زقاق تفتش عن أبنائها دون جدوى فلقد تفرقت اللمة الجميلة وتشرد الأصحاب ضمن مربع الحي الواحد وضاعت الثورة وذاب أبناءها في بوتقة المجلس الأئتلافي والتجمع التعددي وتنظيم الدولة وجبهة الرسول وأختلطت الرؤى وأختلفت التوجهات .
الوضع الراهن فاق توقعات مصممي تلك الثورة العفوية الأوائل الطامعين بأرتداء ثورتهم العباءة التونسية ، بل أن عملية الترميم السياسي لم تستوفي شروط المستفيدين من تلك الثورة !! والقائمة تطول من تجار الحروب إلى زعماء الأحياء إلى لصوص الحواجز إلى مندوبي النظام والمعارضة .
فعندما يلتقي نصر الحريري ورندا قسيس في برنامج الأتجاه المعاكس ليتبادلون التهم ويتراشقون نظرات التخوين والعمالة والدم السوري ينزف في كل شبر لم ينطق الشهادة بعد ، وهم يزاودون على الدماء بفناجين القهوة وعلى الثياب الممزقة بالثياب الباهظة وعلى الأوجاع بالضحكات واللزمات والغمزات ، و يحللون ردود أفعال الرئيس الأمريكي وتصريحاته الأستباقية الذي أعلنها صراحة بعدم أمكانية الأطاحة بالأسد للحفاظ على مؤسسات الدولة ولعدم سقوطها لقمة سائغة في أحضان داعش والأثنان من المعارضين للأسد !!
غير صحيح بأننا تجاوزنا حواجز الخوف بشكل كامل خلال مراحل الثورة !! فعندما نسمح للغرباء بأن يتحدثوا عن آلامنا ونبارك تسلم ثلة سيئة زمام ثورتنا دون أبداء الرأي وأظهار إي ردة فعل خوفا من القصاص من عسس الثورة وشراسة مخالبها القاتلة فتلك عدة مؤشرات بأننا أستُهلكنا مرتين !! مرة من قبل النظام ولعشرات السنين ومرة من قبل أسياد المعارضة القادمين من مقاهي أوربا يتأبطون أوامرهم وخطاباتهم . حالة من الأحباط المزمن والألم المرير يمزق أولئك الفرسان الذين طالبوا بجرعات قليلة من الحرية بالبدء ، ففتحت جهنم أبوابها وأصبحت حبات المطر قطرات نحاس لزج تشوي أجسادهم العارية.
لاتتنازل عن منصة صوتك لأحد فيحدث بأن من أستأجر السفاح ليقتلك راوغ أحاسيسك بثائر وهمي تخرج من ذات الجامعة العفنة حيث هناك يقرر مصيرك الحتمي قبل بلوغك الحلم .
كل ثورة شهيدة وأنتم بألف خير .