باروخ وأشفور وأدمـــونٌ”ברוך אשפור אדמון”
من الحكايات الشعبية ليهود مصر القرائين؛ (القرن الثانى عشر)
-17-
-17-
كتب . د. احمد زكريا
خرج الخليفة وأغلقت أبواب القاعة واحدًا تلو الآخر، وقام أربعة عشر من الأحباش بإغلاق البوابة الذهبية، سبعة يدفعون بمزلاج كل لوح ذهبى، راقب “ناجيد مصر” خط النور الذى يعبر أرضية القاعة وهو يتضائل شيئًا فشيئًا حتى صار مثل سيف أبيض طويل يشطر القاعة نصفين ثم تلاشى نهائيًا لتغرق القاعة فى ظلام دامس لولا المصابيح والقناديل التى كشف الظلام عن وجودها؛
وفى ضوء الشموع الخافت بدأت عيون اليهود تلمع، عيون تلمع بالذكاء واليقظة تطير فى الهواء بعد أن تلاشت أجسامهم واختلطت ملابسهم السوداء الفضفاضة مع ظلمة القاعة.
كان الجنود السودانيين والاحباش متأهبين للتفريق بين اليهود واستخدام القوة لمنعهم من العراك؛ فلقد حملهم ما شاهدوه من مساجلات أثناء مجلس المحاكمة لأن يتوقعوا أن معركة شنيعة سوف تحدث بين اليهود ما ان تغلق البوابة عليهم، ولكن أى من ذلك لم يحدث!!..لم يتجادل اليهود أو يتكلم احد منهم مع الآخر، عاد “باروخ” الذى ترك الخليفة عن البوابة يقطع بهو القاعة بخطوات هادئة مخافة ان يصطدم بأحد المباخر الموجودة هنا وهناك، ليجلس إلى جوار أخويه،
فلقد أمر الخليفة بثلاث من الكراسى ليستريح عليها الإخوة عندما بدت المحاكمة أطول مما توقع، وما أن جلس “باروخ” مكانه حتى قام “أدمون” يسحب يد أخيه “أشفور” الذى لم يفتقد أى شيىء من ضوء النهار، سار الإثنان حتى أحد أركان القاعة فجلسوا على الأرض مستندين لأحد الأعمدة العملاقة التى ترفع السقف الخشبى المذهب للقاعة.
كان “باروخ” مرتبكًا يتجاهل نظرات القرائين ويستحى النظر إلى عائلته الجديدة من الربانيين فتصطاده عيون القرائين المترصده له وتقطع عليه الطريق، فما كان منه إلا أن أنزل عمامته السوداء من فوق رأسه و فكّ طياتها صانعًا منها طاليتًا أسود(1)، وضعه على رأسه، فحجب عنه كل الأفكار الشريرة التى تتحرك حوله فى الظلام، ثم كان أن قام الناجد من مجلسه يتبعه كل الربانيين فجلسوا على مقاعد المسلمين على الجهة الأخرى من القاعة،
ثم تحرك القراؤون وملؤوا المقاعد التى تركها الربانيون حول شيخ بنى مقرأ، كل شيىء حدث فى صمت وهدوء شديد وسلاسة تامة حتى أن الجنود السودانيين تعجبوا من صوت الهمسات الى صارت تتردد هنا وهناك فى جنبات القاعة، كانت همسات بلغة غريبة غير مفهومة، بدت لهم عربية او بدوية، كانوا يسمعون كل الحروف العربية ولكن غير مرتبه، فى غير أماكنها الصحيحة ، “الحاء”، “الخاء”، “الشين” التى يعرفونها جيّدًا ولكن كل منها على غير الصورة التى اعتادت آذان الأحباش سماعهم بها، إنها العبرية، إذ جاز هكذا أن توصف،
فقد كان بنى مقرأ يتحدثّونها بلكنة قرايتية(2)حتى لا يلتقط كلماتهم الربانيين، أما الربانيون فاستخدموا اللكنة الياديتشية(3 )التى يكرها القراؤون،
أما “أشفور” وأدمون” فلم يكن فى جعبتيهما لغة سوى العربية( 4)ولكن همساتهم ضاعت وسط أزيز النحلات العبرية، أما السامريون وكانوا أربعة فلزموا الصمت لـيلتقطوا الكلمات من هنا وهناك، حتى قال زعيمهم:” لًوْ لًم ْأًحْضًرْ هًذَا الْمَجْلِسْ بِنَفْسِى وَحَكَى أَحَدُهُمْ عَمَّا جَرَى فِيِهْ لَكُنْتُ حَزِنْتُ طِوَالَ عُمْرِى، وَالْيَوْمَ لَنْ تَكْتَمِلَ سَعَادَتِى حَتَّى أَعْرِفَ كَيْفَ سَيَنْتَهِىَ حَالُ الْفَرِيِقَانِ!؟”
(1)طاليت أو طاليط،: وبالعربية الفصحى تنطق “الطيلسان” والجمع “طيالسة”، والمقصود به غطاء فضفاض للرأس يستخدمه اليهود، فيضعونه فوق رؤوسهم أثناء التعبد و ترتيل الصلاوات، دائمًا يكو لونه أبيض وهو يعد لزمن الشتات فى سيناء ومن طبيعة الأزياء البدوية، يشبه لدى البادية “الغطرة”،
يمتاز طاليت القرائين بطريقة خاصة فى صناعته وفقُا لما جاء فى التوراة و ينتهى دائمًا بمجموعة من الشاشف والأهداب المصنوعة من الخيوط الزرقاء، فكان اليهود القراؤون يطلق عليهم من جانب الربانيون “بالمسلمين الزرق”؛ بسبب طيلسانهم ذو الأهداب الزرقاء الذى امتاززوا به عنا باقى الطوائف اليهودية، اما مسلمين فبسبب حراكتهم فى الصلاة من سجود وركوع والتى تشابه صلاوات المسلمين ولا تشبه أى من باقى الطوائف اليهودية من ربانيين وسامرة.
(2) قرياتية أو كريامية: لهجة عبرية تكلم بها القراون القادمين من أسيا وبلاد الترك، تحتوى على لفظات يونانية و تتارية إلى جانب التركية القديمة ولقد أجاد حاخامات الطائفة و كبار رجال الدين منهم استخدام تلك اللكنة التى تبدوا غريبة فى آذان اليهود الربانيين فلا يتبيّنوا ما يسمعون.
(3)اللغة الياديتشية: أحيانًا تسمى لغة الياديتش؛ هى لغة عبرية اختص بها يهود وسط أوروبا من الربانيين ومن يهود ألمانيا النازحين لمصر، كانت تلك اللغة حكرًا على فئة صغيرة من يهود مصر واستخدمت بشكل أساسى فى المعاملات والصفقات التجارية السرية وكان منطقها غير مستساغ لدى القرائين.
(4)اللغة العربية: هى لغة الثقافة الشعبية لدى يهود مصر القرائين و كل من لم يتبع السلك الدينى فى حياته الشخصية ، كان يشعر بأن اللغة العربية هى ملاذه و تعبر جيدًا عن جميع أفكاره و مشاعره، ومع ذلك كان عليه باستمرار أن يتعامل مع اللغة العبرية بغعتبارها لغة الصلاة الوحيدة لدى القرائين وهى أيضًا اللغة التى تكتب بها العقود والحجج الدينية الغليظة مثل الكتوبة.