شعر وحكاياتعام

الأحول


قصة قصيرة : بقلم فؤاد حسن محمد.جبلة . سوريا
في الحرب ينتهي عمر الناس بسرعة ،وهاهي جارتنا هي الأخرى تودع الحياة كالآخرين ربما إلى الأبد ،ولن ترى بعد اليوم الأشياء التي تآلفت معها ،حاولت أن أزن بعقلي هذا الأمر بوضوح ، يخطر ببالي ولكونها امرأة فإن موتها ليس شيئا ذي بال،وكأن كل ذلك اللطف التي كانت تمنحه لأولادها قلما يقابل عطفاً منهم يمنح لها في النهاية،يعطيها الشعور بالزهو أنها أم .
لا لن يذرف أولادها الكثير من الدموع لرحيلها ،سيختلف الأمر لو كان الميت هو الأب ،ربما يصف البعض تصرفات أولادها بالطيش ،حينها سيبدون أكثر وفاء ،لكنهم يظنون ، فكل الأبناء سواء.
* * * * * ** * 
عندما كانوا صغارا وكانوا على قيد الحياة كانوا سعداء ،وكان حمودي الأحول ذلك الصبي الأخرق الذي كدنا أن ننسى اسمه أيام الدراسة ،إذ ما فتئ الأولاد كلما التقوا به ،يرفعون له إصبعي السبابة والوسطى ويسألوه :
ـ كم عدد هذه الأصابع يا حمودي
ليس المهم ما يجيب ،المهم أن نستفزه بأنه أحول ، ولا يحق له أن يكون محترما بين الأسوياء.
كان الأمر يبدوا لنا مسليا نحن الصغار ،ثم وجدنا أنفسنا ندمن السخرية عليه بشدة ،حتى أن أحدنا فسر سبب حول عينيه بان أباه ضاجع أمه وهو مائل،لقد قصصنا الكثير من القصص المضحكة عن عاهته ، ولكل منا قصته التي تفسر هذه العلة ،ونكون أكثر سعادة عندما نتفوه بالقصة الأكثر بذاءة ، أتذكر جيدا ذات مرة عندما ركل الكرة وأحرز هدفا،ضحكنا جميعا بصوت مرتفع ،بينما كانت الدموع تسقط من عينيه على الأرض ،ثم أطلق ساقيه للريح وهو يصيح بألم صيحة مدوية:
_أمي …أمي…
لكن السؤال الذي حيرني كيف تمكن هذا الأحول من رؤية تلك الكرة وتسديدها بمهارة في المرمى .
نادته أمه فورا بأسرع من أي نداء :
_حمودي ..حبيبي …تعال لا تخف ..
ارتمى في حضن أمه ، لحظة توحد ،تلا ذلك صوت أمه وهي تهدهده،كان منهاراً ومنكسراً، لا يدري هل ينبغي عليه توجيه اللوم على أمه التي خلقته أحول أم على رفاقه الذين يسخرون منه .
– تعال حبيبي لا تلتفت لما يقولون أنت ستصبح رجلا ، والرجل لا يعيبه أنه أحول .
هكذا وفي حوالي الساعة الخامسة مساءً كانا يرتقيان درج أحدى الأندية الرياضية الكبيرة لتسجله في لعبة الملاكمة ، كانت تقوده وعلى شفتيها ابتسامة النصر في المستقبل .
وفي الأيام التالية فوجئنا وعلى غير العادة أن حمودي لم يعد يظهر بيننا ،بل أصبح يتجاهل تعليقاتنا ،وهو في قمة الزهو والغرور .
مع مرور الأيام بدأ جسم حمودي يتغير بعد أن اسقط كل دموعه ،وصار يستمتع بعضلاته التي نمت بسرعة رهيبة ،لكن قلبه لم يقوى بعد، أسرع مصطفى ابن النجار و اشرف إلى جادة الشارع ، ومدا خيطا من النايلون بين طرفي الشارع وبدءا ينتظران اقتراب حمودي ،وجلسا القرفصاء كل في زاوية ممسكان بطرف الخيط وعندما أصبح في المصيدة رفعا الخيط ،فتعثر حمودي ووقع على الإسفلت ،فركضا نحوه وهم يتصايحان ويتضاحكان .
انجرحت ركبته واتسخ بنطاله ،حدث ذلك أمامنا كما لو إن حادثة عظيمة دونت في كتاب ،ولسبب ما لا يدريه تملكته رغبة حقيقية إن يكون وحيدا حين سقط ،فجلس يبكي بمرارة ، وحين عاد إلى البيت ،نظر في المرأة فغضب غضبا شديدا، لم يسبق إن صرخ في وجهه وهو يلمح الجمال البشري يختنق في عينيه الحولاوتين .
بدا له كأن أحدا داس عليهما قصدا كي يحدث خطأ غير قابل للإصلاح،يحاول أن يقربهما من بعضهما ، جهد أخرق ما يفعله ،اصطدم بالمستحيل فاستسلم خارج سياق القدرة على إعادة الكلمة بعد بصقها من الفم .
ماذا لو كان بمقدوره أن يكشف دواخله ،شيء فظيع أن يكتشف الإنسان أن أمه خدعته بمهارة ،وأن فكرتها عن المحبة هي ليست المحبة الحق ،إذ كيف تحب إما ولدها وتورثه عاهة ،وأن التظاهر بأنها تحبه لهو خيانة غير ضرورية .
جلس يتأمل العيون البنية الجميلة في وجه أمه وهي تركع على ركبتيها أمامه ،قبح يجعلك تبكي مثل أي شيء يحتاج للجمال .
-” أنا احتقرك “
لم يصرخ ويرمي كلماته في الهواء بل كومها ووضعها في زبالة قلبه .و راح يبكي برتابة من أصيب بمرض مزمن ،قررت الأم أن تنظر إلى عيني ابنها ، أن تمتلكهما ،فهي على شفا حفرة من الألم ليس له نهاية .
كل ما في الحياة مخطط بشكل جيد ، حمودي اليوم أمام شيء أسمى لا يشبه الأيام الماضية ،يشبه مزاجه المشوه الذي تألق به ،الحول لا يمكن أن يكون شيئا تافها،وهو لم يسعى لإثبات العكس ،ولم يكن من السهل حين يحدد الفرق بين الحول والسوي ،فهذا كفيل بأن يغير حياته ، ويجري هذا التدفق الكبير للحياة في غرفته الميتة ،التي لا يبارحها القبح .
وقف حمودي مديراً وجهه للمرآة فقد كان يظن أن هذا أسلم عاقبة ،سُمعت طقة باب يُفتح ،كانت أمه تجول النظر ما بين أرضية الغرفة وابنها ، وعلامات الارتباك بادية عليها ،وقد لاحظ حمودي ذلك ، قالت بصوت حنون متهدج ” أنت تجلس وحيدا ” هذا ما علقت به وأردفت ” مشغول بنفسك ” ، ” لماذا لا تذهب إلى الشارع ” اتكأت على الطاولة وقد شعرت بشيء من الإحراج ، ظل حمودي على سكونه يحدوه أمل أن أمه ستنصرف ، بيد أن الكلام توالى :
-إن هذا ليس حول بل ذكاء … تميز …هل بإمكانك المجيء لنتناول الفطور معا 
جست على ركبتيها كانت تتحاشى النظر إلى عينيه ،لان ذلك يسبب له نوبات غضب لا يمكن التنبؤ بها ،ففي هذه اللحظات كان قلبه يخفق مثيرا انفعالا طائشا غير محدد الوجهة ،فتتملكه رغما عنه رغبة في تحطيم كل شيء . 
إن مقته المجنون لأمه هو في الحقيقة موجه ضد نفسه ،تراوده منذ زمن فكرة أن يضرب أمه على عينيها ضربا حتى الموت ،صدرت عنه همهمة ” أخرجي عن وجهي ” ومد يده مشيرا بإصبعه إلى الباب ، وفكر وفي نفسه شيء من التقزز ” أهذا هو التميز …الذكاء !! ” ، مضت لحظات وهو يحدق في أمه ببلادة ، التي قد بدأت الانسحاب يتولاها الفزع . 
هنا صفن فبدا وجهه خلواً من أي تعبير ،لكن عيناه كشفت غليان يخطر باستمرار في باله ،فتابع التواصل العابر الذي كان محض صدفة ، إن الأمر لا يعدو مجرد حادثة استمرت لثانيتين ،التقت خلالها أشعة عينتاه بعينتي تلك الفتاة ، وهذا بالتحديد ليس ذات أهمية له، وفي تلك اللحظة صدر عنها زعيق امتزج فيه الذعر بالقرف ،زعيق تصطك له الأسنان، لكن هذا لم يثر فيه أدنى خزي ، فهو بالكاد نظر إليها ،لكن الذي استفزه تلك الحركة الرشيقة من يديها التي غطت بها وجهها ، حركة مع ثني الذراعين طوحت ثمالة أمله أن يتقبله الآخرون .
وما خطر بباله أن السبب هو أمه ،فانخرط في انفعال غامر ” الموت لأمي … الموت للفتاة ” ،التقط زجاجة العطر وقذف بها المرآة فأصابت صورته ، التي تشظت قطع صغيرة من الزجاج ، وعبقت رائحة العطر في أرجاء الغرفة ،كل شيء هنا في فوضى ،على الطاولة كومة من الكؤوس المتسخة ،وفي أرضية الغرفة أعقاب سجائر وملابس داخلية متسخة ،وفي الزوايا خيوط عناكب مغبرة ، أما على الجدران خنجر معلق بلونه الفضي ،تختلط كلها بفوضى مرتبة مع رائحة العطر الذكية . 
حدق في المرآة كمن يكتشف قبحه لأول مرة ،طافت في رأسه رؤى غرائبية ، إن بربرية الكراهية أكبر من أن تنمحي ببساطة ، تملكه شعور بالفزع والهلع مما هو قادم عليه ، الأمر ليس هراء ، استجمع شجاعته ثم فتح الباب متجها إلى غرفة أمه ،لقد كانت حيث هي ميتة في غرفتها .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock