عدل الرسول عن آرائه فى الغزوات الثلاثة الكبرى
بدر وأحد والخندق شاهدة على استجابة النبى لمشورة أصحابه
تحقيق – رجب عبدالعزيز:
من أهم ما سجلته السيرة النبوية فى رصدها لأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يتشبث بآرائه أو قراراته مادامت خاصة به لا صلة لها بما يمليه عليه الوحى الإلهى. والرسول صلى الله عليه وسلم حين كان يفعل ذلك كان يربى الأمة ويعلمها أن القائد مهما علت مكانته لا يجد غضاضة أو حرجا فى أن يراجعه أصحابه فى آرائه وقراراته إذا استمع منهم لوجهات نظر أخرى يراها أجدر بالقبول أو يرى أنها تمثل الاتجاه الغالب بين أصحابه. ومن هنا أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل عملى مبدأ مهما من مبادئ الحكم الإسلامى وهو الشورى.
ويقول الدكتور عادل عبدالعزيز، أستاذ التاريخ الإسلامى بكلية اللغة العربية فرع الزقازيق، فى غزوة بدر سار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل أدنى ماء من بدر فنزل به. فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله! هذا منزل أنزلكه الله تعالى لا نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأى والحرب والمكيدة، فأشار عليه الحباب بن المنذر أن يسير إلى مكان آخر هو أصلح وأمكن للمسلمين من قطع ماء بدر عن المشركين. فنهض الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى وصلوا إلى المكان الذى أشار إليه الحباب، فأقاموا فيه.
وفى غزوة أحد كان من رأى الرسول وعدد من أصحابه ألا يخرج المسلمون إليهم، بل يظلون فى المدينة، فإن هاجمهم المشركون صدوهم عنها، ولكن بعض شباب المسلمين وبعض المهاجرين والأنصار وخاصة من لم يحضر منهم معركة بدر ولم يحصل على شرف القتال فيها تحمسوا للخروج إليهم ومنازلتهم فى أماكنهم، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيهم، ودخل بيته ولبس لأمته (درعه)، وأخذ قناته بيده، ثم خرج إلى المسلمين، وهو متقلد سيفه، فندم الذين أشاروا عليه بالخروج إذ كانوا سببا فى حمله على خلاف رأيه، وقالوا للرسول: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت أو اقعد إن شئت – فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ما كان ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، ثم خرج والمسلمون معه فى نحو ألف بينهم مائة دارع وفرسان.
وفى غزوة الأحزاب فكر النبى فى مصالحة قبيلة غطفان على ثلث ثمار المدينة، ولكن الأنصار رفضوا اعتزازا بدينهم، فنزل الرسول الكريم على رأيهم.
ويتساءل الدكتور عبدالرحمن سالم، أستاذ التاريخ الإسلامى بكلية دار العلوم: هل كان الرسول يقبل أن يراجعه أصحابه فى قراراته؟ مؤكدا أن من أهم ما سجلته السيرة النبوية فى رصدها لأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يتشبث بآرائه أو قراراته مادامت خاصة به لا صلة لها بما يمليه عليه الوحى الإلهى. والرسول صلى الله عليه وسلم حين كان يفعل ذلك كان يربى الأمة ويعلمها أن القائد مهما علت مكانته لا يجد غضاضة أو حرجا فى أن يراجعه أصحابه فى آرائه وقراراته إذا استمع منهم لوجهات نظر أخرى يراها أجدر بالقبول أو يرى أنها تمثل الاتجاه الغالب بين أصحابه. ومن هنا أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل عملى مبدأ مهما من مبادئ الحكم الإسلامى وهو الشورى.
“ذو الرأى”
ويضيف أن هناك فى أدبيات السيرة النبوية عددا من المواقف التى تؤكد ذلك من أبرزها ثلاثة:
أولها ما حدث فى غزوة بدر حين عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم فى مكان رأى أحد أصحابه – وهو الحباب بن المنذر – أنه ليس معسكرا مناسبا؛ لأنه كان بعيدا عن الماء، فقال له: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة، فاقترح عليه الحباب مكانا آخر قريبا من الماء فاستجاب له الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد أشرت بالرأى، فكان الحباب يدعى “ذا الرأى”.
والموقف الثانى المشهور ما حدث فى غزوة أحد حين حشدت قريش جيشها الذى تكون من ثلاثة آلاف مقاتل بينهم عدد كبير من الفرسان وتقدموا للهجوم على المدينة. وكان قرار الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن يتحصن المسلمون داخل المدينة فهم أدرى بطرقها وشعابها وأقدر على دحر العدو المهاجم، ولكن غالبية الصحابة – وبينهم حمزة عم الرسول – عارضوا ذلك وآثروا أن يواجهوا العدو خارج المدينة حتى لا تقول قريش: حصرنا (حاصرنا) محمدا فى حصون يثرب وتتهم المسلمين بالنكوص عن القتال. ومن هنا احترم الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الأغلبية بالرغم من أنه كان يرى مع عدد قليل من أصحابه رأيا آخر.
أما الموقف الثالث المشهور فهو ما حدث فى غزوة الخندق أو الأحزاب فى العام الخامس للهجرة حين جمعت قريش حلفاءها وأرادوا توجيه ضربة قاضية ضد الدولة الإسلامية، فاستعانت باليهود وغطفان وقبائل أخرى كبنى سليم وبنى أسد وفرضوا حصارهم على المدينة، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعقد صلحا مع قبيلة غطفان التى كانت تمثل عنصرا أساسيا من عناصر الأحزاب، فعرض عليهم ثلث ثمار المدينة على أن يرفعوا الحصار عنها، واستشار فى ذلك سعد بن معاذ زعيم الأوس وسعد بن عبادة زعيم الخزرج فقالا له: يا رسول الله أمر تحبه فنصنعه، أم شىء أمرك الله عز وجل به لابد لنا من عمل به، أم شىء تصنعه لنا؟ فقال: بل هو شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأننى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم. فقال سعد بن معاذ: “يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله عز وجل وعبادة الأوثان ولا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم” فاستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرأى الذى كان يعبر عن موقف معظم المسلمين.
كل هذا يؤكد كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم فى إدارته لشئون الدولة الإسلامية أبعد ما يكون عن الاستبداد والانفراد بالرأى.
ويؤكد الدكتور يحيى أبو المعاطى العباسى، الباحث فى التاريخ والفكر الإسلامى، أن هناك ثلاثة مواقف كبرى تدل على استجابة الرسول لتعديل رأى كان قد اقتنع به إلى ما هو أفضل منه وأصوب. وهذه المواقف الثلاثة فى الغزوات الكبرى فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الموقف الأول فى غزوة بدر عندما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أدنى ماء من مياه بدر ليعسكر فيه جيش المسلمين إلا أن الحباب بن المنذر قام وقال: يا رسول الله أرأريت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأى والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض يا رسول الله بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم (أى من المشركين) فننزله ونغور ما وراءه من الآبار ثم نبنى عليه حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فأخذ النبى برأيه. وكان لهذا الرأى الأثر الطيب فى هذه الغزوة الفاصلة فى حياة المسلمين، وهذا يدل على الحرية التى ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ومكنته من أن يستفيد من عقول أهل الرأى والمنطق الرشيد، فالقائد النابه الناجح إنما يكون بتقديره لرأى ذوى الرأى والعودة إلى صائب آرائهم. أما الموقف الثانى فكان فى غزوة أحد فكان من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحصن بالمدينة ولا يخرج لملاقاة المشركين، وقال صلى الله عليه وسلم: إنا فى جنة حصينة، واستشار أصحابه فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها إلا أن هناك رأيا آخر رأى أن يخرجوا لملاقاة المشركين حتى لا يتعرضوا للحصار الذى قد يطول، واقتنع الرسول صلى الله عليه وسلم بالرأى الثانى وهم بأن ينفذ رأى الفريق الثانى، وحدث تلاوم بين المسلمين لأنهم فهموا أن الرسول أجبر على هذا الرأى فأرسلوا إليه حمزة بن عبدالمطلب ليقولوا لرسول الله أمرنا لأمرك تبع. فقال صلى الله عليه وسلم إنه ليس بنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل أى أنه يخبرهم أنه مقتنع بهذا الرأى وليس الأمر فيه تردد منه، وكان لهذا الرأى أثره فى حماية المدينة من هذه الغزوة.
“السعدان”
أما الرأى الثالث فكان فى غزوة الخندق التى رأى قيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتت الأحزاب فاختار قبيلة غطفان لكى يعقد معهم صلحا على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، وعندما علم السعدان “سعد بن معاذ وسعد بن عبادة” بذلك رفضا هذا الأمر. وقالا: يا رسول الله أأمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنى رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة. والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال صلى الله عليه وسلم: أنت وذاك. وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموقف، وأدرك أن الروح المعنوية للأنصار مرتفعة فلم يغضب بل نزل على رغبة أصحابه وليس هذا غريبا، فالعرب أهل رأى وعصبية وعقل ومروءة وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهل هذا وهو القائد والنبى. وهذه الدروس ينبغى أن يتعلم منها أولو الرأى فينزلوا على الصواب من المواقف والآراء ولنا فى رسول الله الأسوة الحسنة.