شعر وحكاياتعام

الضحك على اللحى …

قصة : مصطفى الحاج حسين .


قا لي أحدُ الشعراء الكبار ، ممّن يحتلّون مكانة مرموقة في خارطة الشعر العربي الحديث ، بعد أن شكوتُ له صعوبة النشر ، التي أُعانيها وزملائي الأدباء الشباب:


– هذا لأنّكم لا تفهمون قواعد اللعبة !! . قلت بدهشة :


– كيف !! .. علّمني .. أرجوك .


ابتسم شاعري الموقّر ، وأجاب :


– عليكَ أن تكتب دراسات نقديّة ، عن أولئك الذين يتحكمون ، بحكم وظائفهم ، في وسائل الإعلام ، فكلُّ المحررين ورؤسائهم ، في الأصل أدباء ، اكتب عنهم مادحاً ، وستُفتحُ لك أبوابُ النّشر على مصاريعها .


وقبل أن أعلّق على كلامه .. تابع يقول:


– عندي فكرة ، مارأيك أن تكتب دراسة عن مجموعة ” قطار الماء ” ، التي صدرت مؤخراً ، ألا تعرفُ ” رمضان النايف ” صاحب المجموعة ؟؟ هو رئيس تحرير ” وادي عبقر ” ، وهي تدفع ” بالدولار ” .


اقتنعت بالفكرة مكرهاً ، فأنا قاص . ماعلاقتي بالكتابة النقدية عن شعراء الحداثة !.


غادرت مقهى ” الموعد ” ، ودلفتُ إلى المكتبة المجاورة ، ولحسنِ الحظ لم أعان من البحث عن المجموعة كثيراً ، غير أنّي فوجئتُ بارتفاع ثمنها .


عندما أبصرت زوجتي المجموعة في يدي ، صاحت مستنكرة :


– ماذا تحمل ؟! .. هل عدتَ إلى شراءِ الكتب ؟ .


ابتسمتُ لعلّي أُخففُ من غلوائها ، فهي سريعة الغضب ، وسليطةُ اللسان ، تزوجتني بعد أن أعجبت بكتاباتي ، وأنا لا أنكرُ وقوفها إلى جانبي وتشجيعها لي في السّنة الأولى من زواجنا … كانت توفّر لي الوقت الملائم للكتابة ، لكنها سرعان ماتغيرت بعد أن حطّ مولودنا الأول بعبئه على أعناقنا ، خاصةً وأنها كانت تُتَابعُ ما يصلني من ردود الدوريات العربية والمحلّية ، حاملة الكلمة ذاتها ، بالأسلوب ذاته :


– ” نعتذر عن نشر قصّتك، لأنّها لا تنسجم وقواعد النشر في المجلة ، وفي الوقت عينه ،فإنّ هيئة التحرير ، ترحب بأية مساهمات أخرى ، تردها منكم .’


في البداية كانت ” مديحة ” تلومني لأنّي لا أجيد انتقاء القصة المناسبة لكل مجلة.. لكنها عندما وجدت أن هذه العبارة ،


تكررت على جميع قصصي المتنوعة الأغراض ، أيقنت أنّي كاتب غير موهوب ، ولهذا أخذت تطالبني بالبحث عن عمل إضافي ، بدلاً من تضيع الوقت في كتابة لا طائل منها ، فقدت إيمانها بموهبتي ، وراحت تعمل على قتل هذا الهوس الذي تملكني منذ الصغر .


وخلال فترة وجيزة ، تحوّلت ” مديحة ” إلى عدو للأدب ، فأخذت تسخر من كتاباتي ، وباتت تعيّرني بما يردني من اعتذارات ، وصارت تضيق بكتبي ، ومن الأمكنة التي تشغلها .


ذات يوم عدتُ لأجد جميع ما أملكه من كتب ، ومادبّجتهُ من قصص قد تكوّمَ على السقيفة ، إلى جانب المدفأة .


ولكي لا أفكر بالكتابة مرّة أخرى ، صمّمت على أن تبعدني عن أصدقائي الأدباء ، فسلّطت عليّ إخوتها ، لكي يرغموني على مشاركتهم في اللعب بورق الشدة ، وطاولة الزهر ، واستطاعت أن تجبرني ، على العمل مع أخيها سائق الأوتوبيس ، كمعاون له أجمع أجرة الركاب ، وأنادي بصوت عال خجول :


– جامعة .. سياحي .. سيف الدولة .


وهذا ماجعلها اليوم تدهش ، حين رأتني أدخل وبيدي المجموعة الشعرية ..


قلت لها :


– اسمعي يامديحة .. هذه المجموعة سوف تفتح لي آفاق النشر .


ذهلتُ .. لقد ضمّت المجموعة خمس قصائد ، وأطول قصيدة تتألّف من عدّة أسطر . وكلّ سطر يتكوّن من مفردة واحدة ، وقد يرافقها إشارة تعجّب أو استفهام ، أو بعض نقاط .ولكي أكون منصفاً عليّ أن أصف المجموعة بدقة .


بعد الغلاف الأول ، تجد على الورقة الأولى ، عنوان المجموعة ، واسم الشاعر . تقلب الصفحة . تطالعُك عبارة – جميع الحقوق محفوظة – تنتقل إلى الصفحة الثالثة فترى عنوان المجموعة مكرراً بشكل مجسّم ، تأتي إلى الرابعة ، فتقرأ : – صمم الغلاف الفنان العالمي ” ديكاسو ” وعلى الخامسة يبرز أمامك الاهداء – إلى أصحاب الكلمة الملساء – . وفي الصفحة السادسة ، تعثر على تنويه هام : – الرسوم الداخلية ، لوحات لفنانين عالميين .


وسوف تستوقفُك على الصفحة السابعة ، ملاحطة ضرورية جداً بالنسبة للنقاد :


– كتبت هذه القصائد مابين حصار بيروت ، وحرب الخليج الأولى .


في الصفحة الثامنة ، ستقع على مقدمة نقدية ، كتبها أحدُ النقادِ البارزين ، الذي يستطيع أن يرفعَ ويحطّ من قيمة أيّ أديب كان على وجه المعمورة ، استغرقت تسع صفحات . وعلى متن الصفحة السّابعة عشرة ، ستحطّ الرحال على مقدمة أخرى ، ولكن بقلم الشاعر نفسه ، يتحدّث فيها عن تجربته الشعرية الفريدة ، وعن ذكرياته الأليمة في المعتقل ، يوم تعثّر بإحدى الطاولات وحطّم ماعليها ، وهو في حالة سكر شديد ، مما دفع السّلطة التي لا تميز بين الفنان المبدع والإنسان العادي ، إلى زجه بالسجن ، مثله مثل باقي المجرمين . وكان عدد صغحات مقدمته ثلاث عشرة .


وهنا تنتقل إلى الصغحة التالية ، تقرأ عنوان القصيدة الأولى :


– طار القطار غوصاً –


بعد العنوان الذي انفرد بصفحة كاملة ، تقع على القصيدة التي تتألف من ست مفردات ، توزعت على ستة أسطر :


– (( حدقت / في / شهوتي !! / وقلتُ: /صباح الخير/ )) .


وتنتهي القصيدة .


ولأنّ القصيدة ، أو لأنّ معناها تافه وبذيء ، وجدتني أصرخ :


– مديحة .. أرجوك أريد قهوة .


وتصاعف غيظي أكثر ، حين تناهى إليّ صوت ” مديحة ” الساخر :


– حاضر يازوجي العزيز .. يامكتشف اللعبة والمفاتيح .


وحتى لا أشردَ عمّا كنتُ عازماً على تنفيذه ، عدتُ لأتابع قراءتي .


على صدر الصفحة الرابعة والثلاثين ، ستبصر لوحة فنية مغلقة ، مستعصية . وتتهادى إليك الصفحة الخامسة والثلاثون، حاملة معها .. عنوان القصيدة الثانية :


– تضاريس السّحاب –


ليطالعك الإهداء على الصفحة اللاحقة :


– (( مهداة .. إلى كلّ جندي على تخوم الهزبمة )) .


أما الصغحة السابعة والثلاثون ، فقد فخرت بحمل العنوان من جديد ، وبشكل فني مختلف ، وأسفل العنوان ، استلقت قصيدة طويلة :


– (( عواء / الليل / أرعب / أحرفي .. / أوقدت / أصابعي / للكتابة .. / و … / فجأة / قفز / القلم / حين / اعتقلتني / أوراقي / . )) .


وبما أنّ القصيدة كانت مطولة ، احتلت ثلاثة عشر سطراً ، فقد اقتضى ذلك أن تمتد لتصل إلى الصفحة الأربعين .


وضعت ” مديحة ” فنجان القهوة ، على الطاولة التي نستخدمها لكل شيء ، وقالت:


– ألم تباشر بدراستك التي ستفتح علينا ليلة القدر ؟!


حاولت أن أكظم غيظي ، فأجبت :


– لم أنتهِ من قراءتها بعد ، لكنها تبدو لي مجموعة سخيفة .


تراجعت مديحة بعض الشيء :


– سخيفة أم جميلة .. أنت ماذا يهمك ؟.. المهم أن يفسحوا لك مجالاً للنشر .


– ولكنّي سأنافق يامديحة ، وأنا ..


وهنا قاطعتني بانفعال :


– أنت ماذا ؟.. أنا أعرف أنه لا يعجبك العجب ، مَن منَ الكتّاب يعجبك ؟ .. بما فيهم


أصدقاؤك !! .


ومن حسن الحظ ، صرخ ابننا ، بعد أن سمعنا ارتطام جسمه فوق أرض المطبخ ، وهذا ما أنقذني من لسان ” مديحة ” التي ركضت كمجنونة ، فعدت إلى المجموعة .


وسيراً على قوانين المجموعة ونظمها، ستركض الصفحة التالية بمثابة فسحة للتأمل في الفراغ الأبيض ، وقد توحي بمقص الرقابة التقليدي، في حين رفعت الصفحة الثالثة والأربعون عقيرتها ، لتعلن عن عنوان القصيدة الثالثة :


– خرير السّراب –


وتخرج إليكَ القصيدةُ ، في الصفحة الرابعة والأربعين :


منظومة على صفحة ونصف ، ممتدة على ثمانية أسطر :


– (( نافذتي / مغلقة / على / هواجسي، / وأنا / والنار / متشابهان / بجليدنا )) .


هنا نكون قد وصلت إلى الصفحة السادسة والأربعين ، وكما جرت العادة ، سترقص أمامك لوحة فنية جديدة ، وإلى جوار اللوحة ، على صدر الصفحة الأخرى ، كان عنوان القصيدة الرابعة:


– نحن أصل الفراغ –


أما القصيدة التي احتضنتها الصفحة الثامنة والأربعون ، فقد كانت مؤلفة من جملة واحدة ، توزعت على ثلاثة أسطر :


– (( حفيف .. / الشوق !! .. / الصامت ؟.)).


باغتني صوت مزمار الأوتوبيس ، فأدركت أن ” هاشم ” شقيق زرجتي جاء ليأخذني معه إلى العمل ، وسمعت صوت ” مديحة ” التي فتحت باب المنزل ، تنادي على أخيها أن ينزل من السيارة ، ويدخل ليتناول الغداء معنا ، لكنّ ” هاشم ” مستعجل ، لذلك طلب أن أخرج إليه ، دخلت


” مديحة ” قائلة :


– ألم تسمع صوت ” الزمور” ؟.. أجّل كتابة مقالتك إلى الليل .


ولأني لا أطيقُ هذا العمل وأخجل منه ، فأنا مدرس ، أصادفُ الكثيرين من طلابي ، وكم أعاني من العذاب والحياء حين آخذُ منهم الأجرة ، ولهذا وجدتها فرصة لأتنصل من العمل :


– لن أشتغل اليوم .. قولي ” لهاشم ” أن يأخذ


أخاك ” صلاح ” .


صاحت مديحة :


– إذا كنت لا تنوي الكتابة ، فلماذا لا تريد أن تشتغل ؟!.


قلت ، لكي أطمئنها بعض الشيء :


– حتى الآن لم أتخذ قراري برفض الكتابة .


يعني هل ستكتب ؟


أجبت وأنا كلّي حيرة :


– سأحاول .. سأحاول .


عدت إلى الديوان ، وجرياً على العادة تشاهد في الصفحة الخمسين ، لوحة فنية تتربع ، يليها العنوان العريض للقصيدة الخامسة والأخيرة :


– أهازيج الموت –


وخلف هذا العنوان ، على الصفحة الواحدة والخمسين ، إهداء حار :


– (( إلى لوزان وعينيها .. )) .


ثمّ تتبدّى القصيدة على الصفحة التالية :


– (( الصبح / أصبح / يا.. / رندة / والقلب !/


تثاءب !!/ بنشوى / ذكراك . )) .


وكما تلاحظ فقد احتلت القصيدة صفحة ونصف ، لأنّها توزعت على ثمانية أسطر .


على شغف محترق للوصول إلى الفهرس ، تقفز الصفحتان لتحتوياه .. ثم تنفردُ الصفحة السادسة والخمسون بخصوصيتها ، في عرض ما صدر للمؤلف .. وفي الصفحة التي تتبعُها ، كُتبت عناوين المجموعات التي تحتَ الطبع للمؤلف :


1 – الوردةُ القادمةُ من حتفها .


2 – أجهشت بشذاها المعطوب .


3 – وانكسرَ الأريجُ على جناحي فراشة .


4 – فاستفاقَ غبارُ الطّلع .


ولقد خُصصت الصفحة الثامنة والخمسون ، والتي بعدها ، من أجل التصويب الذي سقط سهواً .


تنتهي الصفحة الأخيرة من المجموعة ، بتقاريظ تحت عنوان :


– ” مقتطفات ممّا سيكتب عن المجموعة “


(( لقد حلّق الشاعر ” رمضان النايف ” في مجموعته هذه ، إلى مافوق العالمية بعشرة أمتار وسبعة مليمترات . )) .


امرؤ التيس .. جريدة اللف والدوران .


– (( الحداثة عند رمضان النايف ، حداثةُ وعي ومغامرة ، ترتبط بالتراث التليد ، بقدر المسافة التي تبتعدُ عنه .)) .


مجلة : نواجذُ النقد .. المتخبّي .


ولأنّ الصفحة انتهت ، اضطرت دار النشر ، حرصاً منها على أهمية ما سيقال ، لكتابة التعليقين الآخرين ، على الغلاف الخارجي ، تحت صورة الشاعر الباسم :


– (( لقد أبصرتُ ، بعد عمىً طويل ، ذلك الزخم الفلسفي ، الذي يغلي ويبقبقُ في سطور المجموعة. )).


– أبو العلاء المغري .. في حوار له بعد عودته من بغداد .


– (( كلما قرأت رمضان النايف ، أشعر أنني مبتدئ في كتابة الشعر .)).


جريدة : صوت الكلمة الفارغة .. أبو الدعاس .


ولكي لا نقول عن دار النشر ، إنها نرجسية ، تحبّ المدح ، فهاهي تثبتُ نقداً حاداً ‘ لعباس محمود العياض ” ، كتبه في مجلة الكلمة المشنوقة من أهدابها :


– (( في المجموعة ثمة نقص واضح للعيان ، فأين الصفحة التي تخصص عادة في كل الكتب ، وهي هامة للغاية، ألا وهي – صدر عن دار النشر . أرجو من دار النشر العظيمة الصيت أن تتلافى مثل هذا الخطأ القاتل.)).


عندما دخلت ” مديحة ً ، وجدتني قد مزقت كل ماكتبته من قصص ، وقبل أن تستفيق من دهشتها ، خاطبتها :


– أنا مستعد أن أعمل مع ” هاشم ” مثل الحمار .


اقتربت ” مديحة ” مني ، لمحتُ حزناً في عينيها ، لمحتُ عطفاً ، حباً ، دمعاً ساخناً مثل دمعي ، مسّدت شعري ، ضمّت رأسي إليها ، أنهضتني من فوق كرسيّ ، مسحت دمعتي بباطن كفّها ، التقت نظراتنا ، اختلجت شفاهُنا ، تدانت ، وسرى فيها اللهب.








مصطفى الحاج حسين .


حلب ..







مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock