شعر وحكاياتعام

زهرة السراب

بقلم: خالد عبد المنعم

لم أكن أعلم أنى سأحظى برؤيتها وجها لوجه ولو لثوينات معدودة ،فقد كان غريبا أن تأتى لزيارة أخيها القاطن بالشقة التى تعلو شقة أسرتى ، خصوصا بعد أن تزوجت وهاجرت مع زوجها وأنجبت ثلاث بنات واستقرت فى بلاد المهجر لمدة عشرين عاما لم تفكر فيها حتى ولو لمرة زيارة مصر والاطمئنان على أخيها الذى لم يتزوج ولم يغادر شقة أبيه وأمه بعد أن تزوجت شقيقاته وتوفيا أبواه ، كانت زهرة وهذا اسمها من أجمل بنات الحى وكنت أكبرها بسنتين ، ولم أكن أعلم حينها أنى أحمل لها بداخلى حبا أسطوريا ربما يمنعنى مستقبلا من الارتباط بغيرها ، فقد كنت أراقبها في بساطة وبراءة من وراء شباك غرفتى التى تطل على الشارع الرئيسى كلما ذهبت أو جاءت.
ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في وجه زهرة الحيرى، ربما لأجدد عشقى لملامحها الحلوة وربما لأدخر بعضا من نظراتها الحانية تنفعنى فى سنينى التى لا أراها فيها ، وأسرعت أمد يدى للسلام عليها متمنيا أن تتعانق يدانا عناقا أبديا ، ولكن زهرة أشاحت بوجهها عنى و مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا عبارة ” مين ده على الصبح ! ايه القرف ده !”” . 
ومع ذلك فلم أحول عيني عنها وهي تصعد لشقة أخيها ، ولا عن ثوبها الأزرق الذى يشبه أثواب الأميرات فى قصص ألف ليلة وليلة أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله كتحفتين من العاج الأبيض . 
راقبتها باستغراب ودهشة وهي تتمايل فى أناقة كعارضات الأزياء المحترفات ، وتهز أكتافها فى كبرياء حتى ابتلعتنى بجمالها ورقتها التى لم أنسها منذ عشرين عاما ونسيت أو ربما تناسيت أنها حتى لم تتذكرنى ولم تلحظنى ولم تتوقف للسلام على وأكملت طريقها للصعود وكأنى يوما لم أولد على الأرض !
وتيقنت أنها سكنتنى ولم أسكنها ، ولم أعرف غيرها ولم تعرفنى ، وكنت وفيا لها ولم تشعر حتى بوجودى ، احتفظت بها فى قلبى ولهثت سنينا وراء حب جارف أعمى لايبصر الحقيقة ، ولكنى قررت استجماع ما بقى لى من قوة ورباطة جأش ، وناديت عليها بصوت عال : زهرة ..زهرة..زهرة ..أنا كمال ..انتى مش فاكرانى يازهرة؟ ، فاكرة لما كنا زمان صغيرين ..كنا فى عالم غير العالم لا بناخد بالنا من السنين ولا حتى للهموم شايلين ..وقلوبنا كانت بتضحك لوحدها ضحكة بريئة زيها ..وعيوننا كانت مليانة صدق وحنين 
وتوقفت زهرة عن الصعود ألقت بى فوق صفيح ساخن من الصمت ثم استدارت وردت : زهرة مين حضرتك ؟ أنا ما اسميش زهرة !
مدير قسم الأدب والشعر

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock