شعر وحكاياتعام

شرف العائلة…


شرف العائلة...


قصة: مصطفى الحاج حسين .

طُرِقَ علينا الباب، دقّات عنيفة، سريعة، ومتتالية،

بعثت الرّعبَ في أوصالنا، وجعلتنا ننكمش على

أنفسنا، حتّى أنَّ أخوتي الصّغار، الّذينَ لا ينقطع

ضجيجهم، لاذوا بالصمتِ وهرعوا نحو أمّي،

ملتصقينَ بها بحثاً عن الحمايةِ والأمان.

اعتقدنا أنّ القادم هو «الحاج منير» صاحب المنزل،

الذي يريد إخراجنا منه، قبل انقضاء المدّة المتّفق

عليها.

وبنظراتٍ مليئةٍ بالحيرةِ والأسى، حدّقَ أبي بوجهِ

أمّي الشّاحب، وهمس:

– قولوا غير موجود… لن أقابل هذا السّاقط.

انتفضت أمّي، وأعلنت بصوتٍ مثقَلٍ بالقهرِ:

– هذا النّذل يجب وضع حدٍّ له.

وبتلعثمٍ يشي بالعجزِ، نطقَ أبي:

– وماذا بإمكاني أن أفعلَ، وكلّ أقربائهِ يحاصرونني

في سكنة هذه الحارة؟!

واستجابةً لأمرٍ صدرَ من والدتي، نهضتُ بتوجّسٍ

واضطرابٍ لأفتحَ الباب.

خاطبني أبي :

– – كما أوصيتكم… أنا لستُ هنا.

عندما عبرتُ من جانبِ بابِ المطبخ، خطرَ لي أن

أدخلهُ وآخذ سكّيناً، أطعن بها «الحاج منير»، وأريح

والدي منهُ، ومن زعيقهِ العالي، لكنّني سرعانَ ما

جبنتُ، وطردتُ فكرتي، لأتقدّمَ وأفتح الباب، الّذي

كانَ برتجّ بفعلِ قوى الدّق المتواصل.

اندلقت المفاجأة فوقَ رأسي، تبخّر غضبي المستعر

في شراييني، وتلبّستني الدّهشة، فجّرت في ثنايا

أعماقي المنقبضة شلالات فرحٍ صاخبة، فرحٍ يرغمُ

حامله على البكاء، لكنّني كظمتُ عاصفة النّحيب،

وزايلني وحلُ الخوف. ما حدثَ كانَ أكبر ممّا

أتصوّر، نعم، نعم، إنّهم أعمامي، أعمامي الكُثُر رجال

عائلتنا، جاؤوا إلى زيارتنا دفعة واحدة، لا بدَّ أنّهم

سمعوا بمضايقاتِ «الحاج منير» لأبي، أتوا ليضعوا

له حدّاً، شعرتُ بولادةِ القوّةِ ونموّها في داخلي،

نحنُ أقوياء إذنْ، فَلِمَ يجتاحنا الهلع كلّما قُرعَ علينا

بابنا؟!

ارتبكتُ لمرآهم، وكأنَّ لساني أوثق بحبالِ الصّدمة،

في حين كانت جوارحي تهتفُ:

– أهلاً وسهلاً… أهلاً… أهلاً.

زعقَ عمّي «الحاج قدّور» كبير عائلتنا:

– هل أبوكَ موجود يا ولد؟

صُدمتُ! واعتبرت طريقته في مخاطبتي إهانةً، فأنا

أرفض أن يقول عنّي أحد ولداً، ولو كان القائل كبير

عائلتنا.

رددتُ وأنا أبذل جهداً في كظمِ غيظي، بعد أن

غادرتني ابتسامتي، التي لم تكد تستقرّ فوقَ شفتيَّ

بعد، كانت كعصفورٍ حطَّ فوقَ شجرةٍ مثمرةٍ، لكنّهُ

لمحَ بندقيّة الصّياد مسدّدة نحوهُ، ففزعَ ورفرفَ

بجناحيهِ الصّغيرينِ، وطار:

– نعم… أبي هنا.

صاحَ عمّي «الحاج رحمو»:

– نادِ عليهِ بسرعةٍ…

ثمّ أردفَ ضاحكاً:

– اللعنة على ذقنهِ.

تهاوى فرحي من عليائهِ، تهشّمت مرايا غبطتي على

صخرةِ ضحكاتهم المقزّزة. هم نادراً ما يقومونَ

بزيارتنا، لا سيّما بهذا الجمع.

استقبلهم أبي، وعند العتبة تكدّست أحذيتهم

الملمّعة، هرعتُ إلى أمي:

– أمّي… هؤلاء أعمامي.

وبفتورٍ أدهشني، قالت:

– تشرّفنا.

رفضتُ تناول الطعام، أريد مجالستهم، والاستماع

إلى أحاديثهم، علّهم يقرّرونَ ضربَ «الحاج منير»،

ومنعه من إزعاجنا.

احتلّوا أماكنهم فوق السّجّادة، أحضرتُ لهم التّكايا،

وبسرعةٍ حملتُ من المطبخ عدداً من منافضِ

السّجائر، وكم كنتُ أتمنّى على والدي أن ينتهي من

طلباتهِ. طفتُ على الجّميع وأنا أقدّم لهم الماء،

شاعراً بالحرجِ الشّديد، فالماء غير مثلّج، نحنُ لا

نملك ثلاجةً، والطّقس حار.

وقبل أن أتّخذَ مكاني قرب عتبة الغرفة، أمرني أبي

أن أوصي على إبريق الشّاي… ولحظة أن أردتُ

مغادرة المجلس، خاطبني عمّي «الحاج كرمو»:

– نحن نريد قبل الشّاي، أن نتعشّى.

هتف أبي بحماسة:

– أهلاً وسهلاً… العشاء جاهز.

سمّرني ضحكهم المباغت، ضحكات ماكرة، ساخرة،

لئيمة، ومن خلال ضحكته، هتفَ عمّي «الحاج

ممدوح» مخاطباً عمّي «الحاج كرمو»:

– يا رجل، أتركهُ بحاله… الجّوع قاتله وقاتل أولاده.

صاح أبي بحّدة وحرجٍ، ممّا زاد من تعرّقه:

– خسئتَ أنتَ والجّوع… الحمد لله مستورة.

تعالت ضحكاتهم المقيتة من جديد، دون أن

نشاركهم أنا وأبي بها. لكنّ «الحاج قدّور» أوقفني

قبل أن أردّ الباب:

– عمّك «الحاج كرمو» يمازح أباك… أوصِ على

الشّاي.

كم كرهتهم في هذه اللحظة، ولولا مخافة إغضاب

أبي لكنت طردتهم من منزلنا، الآن أدركت سبب

احتقار أمّي لأعمامي، فهم أغنياء متعجرفون وأبي

مجرد معمارٍ لا أكثر.

رويتُ لأمّي ما حدث داخل الغرفة الخانقة، فقالت

بغضبٍ:

– يحقُّ لهُ… أبو شدق… شدقه أكبر من فردة

الصّرماية.

وكانت تقصد عمّي «الحاج ممدوح» صاحب النّكتة

السّمجة.

الضّحكات والإبتسامات غادرت الأوجه، وحلّت

مكانها ملامح جامدة وقاسية. جلستُ أراقب

الوجوه العابسة، فتحدّث كبير عائلتنا:

– الكلبة فضحتنا، وجلبت لنا العار، كلّ يوم نسمع

عنها أخباراً جديدة.

هتف «الحاج صالح»، وكان العرق بتصبّب منه

بغزارة:

– ذبحها صار حلالاً.

سأل أبي:

– هل أخوها «الحاج حمدو» يعرف حكايتها؟!

تعالت الأصوات من أماكن عدّةٍ:

– إنّهُ قوّاد، تدفع له ثمن مشروبه، وتتكفّل بكلّ

مصاريفه.

– منذ فترة اجتمعنا، وأرسلنا في طلبه، ولمّا جاء،

طالبناه بقتل أخته.

– قلنا له لا تخفْ، نحن لن نتخلى عنك.

– لكنّ القوّاد رفض.

– بل راح يبرّر، ويدافع عنها.

صاح عمّي «الحاج كرمو»:

– والله ذبحه حلال، يجب ذبحه قبل ذبح أخته

الفاجرة.

تبعه عمّي «الحاج ممدوح»:

– فكّرنا بطريقة لقتلها، ولهذا جئنا إليك.

أدرك والدي أنّ الكلام موجّه إليه، قال حائراً:

– وماذا بمقدوري أن أفعل أنا؟! أنتم كما تقولون

تحدّثتم مع «الحاج حمدو» ورفض قتلها. فهل

سيستمع إليَّ؟!

أشعل «الحاج قدّور» سيكارته، عبَّ نفثاً عميقاً، قال:

– نحن لم نأتِ لنطلب منكَ أن تتحدّث مع أخيها.

ولأوّل مرّة يتدخّل عمي «الحاج محيو»:

– جئنا لنعرض عليك فكرة، كنّا قد توصّلنا إليها.

سأل أبي بدهشة :

– تعرضون عليَّ فكرة؟!

سعل عمّي «الحاج وضّاح» صاحب أطول أنفٍ في

عائلتنا، ودمدم:

– ما رأيكَ أن يقتلها ابنك «حسين».

قفز قلبي من سُباتهِ، أحسستُ بحبلِ المشنقة يلتفّ

حول عنقي، داهمني رعب وبرد، هل أنا من سيقوم

بقتلها ؟! ولكن من هي؟ وما اسمها؟ أنا لا أعرفها،

ولا أعرف أخاها!! ثمّ ما صلة القربى بيني وبينها؟!

وتنبّهتُ على صوت والدي:

– ولماذا اخترتم ابني؟ وكلّكم عندكم أبناء، وصلة

القربى بينكم وبينها أكثر.

ابتسم عمّي «الحاج سلّوم»، وهتف:

– يا ابن العم، ابنك ترك المدرسة، أمّا أولادنا فهم

يتابعون دراستهم، ونحن لا نريد تدمير مستقبلهم.

غلى الدّم في عروقي، أوشكت أن أعلن:

– أنا لست مستعدّاً لدخول السّجن.

لكنّ أبي وفّر عليَّ الكلام:

– ابني غالٍ عليّ، كما أولادكم غالون عليكم. وأنا لا

أفرّط به، لكن عندي فكرة إن وافقتم عليها فأنا

جاهز.

عدد من الجالسين، تساءلوا:

– ما هي فكرتك؟! أخبرنا.

تابع أبي:

– نكتب أسماء أولادنا، كلّ من لم يتحاوز السّن

القانوني، نسجّل اسمه، ثمّ، نقوم بإجراء «قرعة»،

ومن تقع عليه «القرعة» يقوم بقتلها.

كان الرّفض شديداً من الجميع، هم يدّعون أنّ

أولادهم يريدون متابعة دراستهم، وأنا تركتُ

المدرسة.

الكلّ راح يهتف، ويصرخ، ويزعق، ويصيح:

– لن نتخلّى عنه.

– سنوكل له أكبر محامٍ.

– سنقدّم له كلّ ما يحتاجه في السّجن.

قاطعهم أبي :

– لكنّني أخرجته من المدرسة ليساعدني في حمل

مسؤولية البيت.

– نحن سنساعدك.

– نشتري لك منزلاً، ونريحك من مشكلة الإيجار.

– سندفع لك راتباً شهرياً.

– ونزوج ابنك واحدة من بناتنا، بعد أن يخرج من

السجن.

وثَبَ قلبي من جديد، أُعجبتُ بفكرتهم، فأنا أحبّ

«انتصار» ابنة «الحاج أحمد»، لكن لا أمل لديّ،

والدها غنيّ، وأنا لم أؤدِّ الخدمة العسكريّة بعد، وأمي

تقول:

– «انتصار» ستتزوّج قبلك، فهي أصغر منك بسبعة

أشهر فقط، وستنجب عدّة أطفال، قبل أن نفكّر

بزواجك.

نعم، سأقبل بعرضهم، أجل سأوافق. هم يقولون أنّي

لن أسجن طويلاً، المهم أن أحقّق حلمي، وأحوز على

حبيبتي، ثمّ أنّي سأنقذ أهلي من مشكلة الإيجار.

لكنَّ الباب فُتحَ علينا، أطلّت أمّي بوجهٍ متجهّمٍ،

رمقت الجميع بنظرةٍ قاسيةٍ، قالت وهي ما تزال

واقفة عند الباب:

– ابنك يا «حاج محيو»، أيضاً ترك المدرسة، فلماذا لا

يقتل ابنة عمّه السّاقطة؟!

احمرّ وجه «الحاج محيو»، وبعد أن تطلّع بوجوه

الجّميع، أجاب بتلعثم:

– ابني «محمد» لا يقدر أن يقتل عصفوراً. ابني لا

يستطيع.

وقبل أن تردّ أمّي وهي محمرّة الوجه، يقدح الشّرر

من عينيها، ارتفع صوت طرقٍ على الباب، وتعالى

صوت «الحاج منير»، وهو يشتم أسرتنا وعائلتنا،

منادياً رجولة أبي للخروج إليه، ووقف الرّجال،

تأهّبوا، ثمّ خرجوا من الباب، غير آبهين لشتائم

«الحاج منير»، وسباب والدتي، الذي كان يطاردهم

في الحارة.

مصطفى الحاج حسين .
حلب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock