في حوار لسحر الحياة أجرته/
صفاء القاضي.
رسالة الغفران من أعظم المؤلفات النثرية في الأدب العربي , خليط من الأدب والفلسفة والتاريخ والنقد ممزوج بشكل رائع بداخل بوتقة خيال كبيرة جدا يغرق القارئ في روعتها , وتحمله أمواج الخيال وشطحاته العالية إلى خيال واسع المدى وكأنك تنظر إلى بلورة الساحر الذي يأخذك إلى الماضي في طرفة عين وإلى المستقبل في طرفة أخرى , فها هو المعري يصف لنا الأحوال في النعيم والسعير ويذهب بنا الى مدائن العفاريت ليحاور شعراء الجن , بل ويلتقي بالشعراء والأدباء من أهل الجنة وأمثالهم من أهل النار ويتطرق بخياله في أحداث الحشر وكيف ينقسم الناس الى فريقين وكيف غفر لابن القارح ومنح عفوا وغفرانا ودخل الجنة كل هذا في رسالة من أجمل ما كتب المعري ومن أجمل ما كتب في النثر العربي , أغرقنا خياله العميق وأخذتنا بلورته السحرية إلى عوالم خفية فلماذا لا نأت بالمعري لنحاوره ويحكي لنا عن رسالة الغفران .
لقد ذهب المعري بابن القارح إلى شطحات المستقبل المجهول وأرسله إلى أرض المحشر وإلى الجنة والنار وحاور الشعراء هناك , وأرسله الي مدائن العفاريت .
فلماذا لا نأت نحن بأبي العلاء المعري إلى عالمنا ومن خلال سحر رسالة الغفران تحاوره سحر الحياة ويحكي لنا عن كتابه العظيم ” رسالة الغفران “
إقرأ المذيد
عبور حرب أكتوبر من الهزيمة إلى النصر والسلام
إقرأ المذيد
عبور حرب أكتوبر من الهزيمة إلى النصر والسلام
من هو المعري ؟ ولماذا لقبت بـ رهين المحبسين ؟
أنا أحمد بن عبدالله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري , ولدت بمعرة النعمان بالشمال السوري في عام ٩٧٣م وكانت وفاتي في معرة النعمان أيضا في عام ١٠٥٦م وكنت شاعرا وأديبا ولغويا وفيلسوفا ولقبت بـ رهين المحبسين لأني كنت مرهونا لمحبسين الأول هو العمى و الثاني هو محبس البيت في بلدتي بسوريا لأنني قررت اعتزال الناس ولم أغادر بيتي حتى وفاتي.
سنتحدث مع حضرتكم عن رسالة الغفران فما هي هذه الرسالة ؟ وما دوافع كتابتها ؟
رسالة الغفران كانت ثالث مؤلفاتي من بعد ديوان سقط الزند و ديوان ” لزوم ما لا يلزم ” أو اللزوميات ثم كانت رسالة الغفران التي كانت عبارة عن رسالة أرد بها على رسالة ابن القارح التي أرسلها إلي يشرح فيها أحوال الناس وعجائب العصر ويتبرأ فيها القارح من تهم عقائدية ذاعت عنه ويعلن إيمانه وتمسكه بالعقيدة فكانت رسالتي ردا على رسالته هي رسالة الغفران وسميت الرسالة بالغفران ليس وصفا لها إنما هو الغفران الممنوح لابن القارح نتيجة رسالته الإيمانية ونتيجة كلمة قالها أصلها ثابت وفرعها في السماء استحق عليها الغفران ودخول الجنة .
اختلف الدارسون هل رسالة الغفران مسرحية أو رواية أم هي شعرا وديوانا أم هي مجرد رسالة فماذا تقول لهم ؟
أقول أن رسالة الغفران هي قالب ذو طابع خاص بنفسه لن يتكرر أو يتقنن إنما هو شعر ذو طابع مسرحي ومسرحية روائية وخيال يفتح أبواب السماء وهو في النهاية رسالة أرد بها على الرسالة القارحية التي لولاها لم تكن رسالة الغفران .
لقد عاصرت العصر العباسي وزمن الفساد والمجون واحتوت رسالة الغفران على انتقادات لاذعة لبعض أخلاقيات هذا العصر فهل تعتبر الرسالة مرآة لعصرك ؟
أعتبرها مرآة لكل عصر وزمان فالمجون والفساد وأمراض القلوب تغزو الأزمان ولا تترك زمنا الا وتلوثه
ماذا فعل ابن القارح بعد أن دخل الجنة .؟
بلغ ابن القارح السماء العليا بفضل كلمته الطيبة التي رفعته إلى الجنة ولقد وصفت حال ابن القارح منعما في الجنة و نعيمها وأنهارها وحورها وقصورها مستعينا بآيات القرآن الكريم وأبيات من الشعر قمت بشرحها أدبيا ولغويا , ثم تنقل ابن الفارض في أركان الجنة المترامية الأطراف حتى قابل شعراء الجنة , منهم من دخل الجنة بعمل صالح ومنهم من دخلها بعد أن غفر الله له ببيت شعر صادق طيب قاله مثل زهير بن ابي سلمي وها هو ابن القارح يتحلق حوله الشعراء ويحاورهم وينتقدهم ويسامرهم حيث قابل من شعراء الجنة الأعشى والنابغة الذبياني وحسان بن ثابت والنابغة الجعدي ووليد بن أبي ربيعة وعبيد بن الأبرص فها هم يتحلقون حول مأدبة من مآدب الجنة الفاخرة ويواصلون الحديث .
ثم هو يقابل حيوانات الجنة ويحاوها كما حاور الملائكة أيضا.
ثم قرر أن يذهب إلى النار ليقابل من فيها من الشعراء والكتاب والمفكرين ويحاورهم في كتاباتهم وهل كانت سببا في إلقائهم في النار خالدين , لكنه يمر وهو في طريقه إلى النار بمدائن العفاريت يحاور شعراء الجن مثل أبو هدرش
وأخيرا يصل إلى النار ويلتقي بشعراء النار من أمثال امرؤ القيس وعنترة بن شداد وبشار بن برد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وتأبط شرا وغيرهم
ثم هو ينهي حواراته النقدية اللاذعة معهم ليعود من جديد إلى الجنة ناجيا بنفسه متلهفا إلى نعيمها المقيم
كل هذه الحوارات بين الشعراء وبين ابن القارح قصدت أن اتعرض من خلالها إلى دراسات لغوية ونقدية هامة عن الحياة والدين والأدب والشعر وركزت على الجانب العقائدي.
إقرأ المذيد
الشهيد شعبان حميدة في يوم ذكراه
كيف يعلو سقف خيالك المتسع في الوصف وفي الأحداث حتي تلامس أطراف السماء وأنت رهين لمحبس فقد البصر ؟ فما مصدر الخيال لديك ؟
إن المصدر هنا ليس البصيرة بقدر ما هو العلم وإتساع الثقافات , فالحياة الأخروية لم يرها أحد , لا مبصر ولا ضرير وهنا يبقى المجال متسع للخيال للجميع دون تمييز لمبصر عن ضرير وان كنت لا انكر طبعا ان مصادري في وصف الجنة والنار استعنت فيها بآيات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف مستعينا أيضا بقصة الإسراء والمعراج وما جاء فيها من أحداث وشخصيات فمزجت الواقع بالخيال والحقيقة بالحلم , إن الخيال المتسع ما هو إلا أحلام يقظة جميلة تهب لصاحبها عقل فوق عقله وعلم فوق علمه .
تزامن الخيال مع السخرية في قيادة السياق في رسالة الغفران فما هي أهم جوانب كل منهما ؟
الخيال تجلى واضحا من خلال الزمان والمكان والشخصيات , فالمكان قد فارق الأرض وأصبح في الجنة حيث كثبان من عنبر وصخور من زمرد وأنهار من لبن , والخيال في الزمان فاليوم فيها مقداره خمسين ألف سنة وقد تجاوزت الفروق الزمنية وجمعت شخصيات متفاوتة العصور بين الجاهلية والعصر الأموي والعصر العباسي وكسرت الحواجز بين الأجناس كما كسرتها بين العصور والأزمان فجعلت الإنسان يحاور الجن والحيوان وزبانية النار والعفاريت وإبليس
وغيرت مواصفات الشخوص فجعلت الأعشى مبصرا وجعلت زهير بن أبي سلمى شابا يافعا .
أما السخرية فاتخذتها مطية هينة ومطيعة لفضح مجتمع مغرق في الشهوات والخمور والعربدة والمجون والطبقية الصادمة والوصولية والوساطة والسلوك الإجتماعي القائم على الغاية تبرر الوسيلة وانصراف الراعي عن الرعية فالسخرية هنا كانت مرآة للجدية والنقد الجارح .
ملحمة الكوميديا الإلهية لدانتي ما مدى تأثرها برسالة الغفران؟
ليس لدي دليل قاطع أجزم من خلاله إطلاع الشاعر الإيطالي الشهير دانتي على رسالة الغفران أو تأثره بها وهو ربما كان متأثرا بالترجمات التي كتبت عن قصة الإسراء والمعراج أو بالكتب الصوفية المترجمة أو ربما استمع إلى بعض أقاصيص الرهبان التراثية , لكن أسعدني كثيرا أن يكون التراث الإسلامي مرجعا خصبا ومنبعا فكريا يقتفي أثره وفي كل الأحوال سواء رسالة الغفران أو ملحمة دانتي فكلاهما يدعوان إلي العدالة والحرية والحق والخير والنظام وتحارب الشر والوصولية والظلم فهما يتوقفان عند هدف واحد
” كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن ” اشتهرت مقولتك السابقة فلماذا قلتها وهل عرفت الإجابة لسؤالك في البيت .؟
قلتها في عصري وهي حقيقة في كل العصور فلم تدم الدنيا لأحد ولن تدوم حتي لو كان يشكو دهره وزمانه او لو لم يشكه فما دامت لأحد إلا لله الأحد .
ما هي أحب مقولاتك الشهيرة إلى قلبك والتي وصلت إلينا ؟
من أحب أقوالي إلي قلبي تأملوها جيدا و تذوقوها لكي تلمسوا عظمة التراث الإسلامي العريق
هي :
” وقد تنطق الأشياء وهي صوامت وما كل نطق المخبرين كلام ”
“العيش ماض فأكرم والديك به
والأم أولى بإكرام وإحسان
وحسبها الحمل والإرضاع تدمنه
أمران بالفضل , نالا كل إنسان “
” إذا صاحبت في أيام بؤس
فلا تنس المودة في الرخاء
ومن يعدم أخوه على غناه
فما أدي الحقيقة في الإخاء
ومن جعل السخاء لأقربيه
فليس بعارف طرق السخاء”
“ومن كان ذا جود وليس بمكثر
بماذا تريد أن تختم حوارنا قبل أن تستعد للعودة والرحيل ؟
أختم حواري هذا بكلمتي الشهيرة وأدعوكم دوما إلى تذكرها وتأملها وهي:
“وما نفيق من السكر المحيط بنا
إلا إذا قيل : هذا الموت قد جاء.”
كان حوارنا العجيب مع الفيلسوف الإسلامي الشهير والشاعر والأديب والتاريخي أحد أعلام العصر العباسي
أبي العلاء المعري الذي رحل وتركنا مسرعا قبل أن نتلمس فرصة شكره علي حواره الخصب السخي فشكرا لتراثنا الإسلامي الزاخر وشكرا لكل دارسيه والمحافظين عليه حتى وصل إلى أيدينا ووجدنا في مكتباتنا الإسلامية العريقة مجلد عظيم عنوانه ” رسالة الغفران ”
أبو العلاء المعري .