شعر وحكاياتعام
قيود الماريونت
بقلم / صفاء القاضي
يقسمون العمر أوقاتا وكأنه تركة , هذا وقت للعب , هذا وقت التعب , هذا وقت البلاهة ، قيود قيود لكل من الفتى و الفتاة ، .لا تلعبي يا فتاة أنت كبرت توقفي فهذا ليس وقت اللعب.
لا تنتهي قيود العمر حتى إذا كبرت تفاجئك قائمة الممنوعات والمحظورات …لا يجوز أن تركبي أرجوحة , لا تجري ….لا تضحكي افعل اولا تفعل ..لا تكن إنسان … كن دمية تتحرك كيفما شاءوا .
أفلا يتركون للإنسان حرية أن يحيا بأي عمر كان ويفعل ما يحب , لماذا يقيدوه في جميع الأعمار ؟
جلس أحمد على كرسي الاستراحة ينتظر المترو ، تاه عقله في تلك القيود ، تذكر كلمات والدته لأخته دعاء قالتها بلهجة التحذير لانتقالها من عمر الطفولة لعمر المراهقه أنت كبرت يا دعاء لاتجري في الشارع تذكر والده عندما نهاه عن الاستمرار في مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة قائلا : أنت رجل الآن والرجال لا يشاهدون الكارتون .
لماذا الرجل لا يشاهد الكارتون ، والفتاة لا تركب الأرجوحة والدراجة التي كبرت عليها , لماذا الرجل لا يبكي ولا يسمح له بالدموع لماذا يخنقون عمرك ويقننونه ؟
في انتظار القطار استغرق داخل أفكاره حتى عزل نفسه نهائيا عن الأحداث والأصوات ، كادت أنفاسه تختنق باختناق الأفكار حتى يكاد صدره ينفجر من كتمة الأنفاس المختنقة بداخله
لا يعلم هل هذا الاختناق بسبب نقص الأوكسجين بمحطة المترو بسبب أنها تحت الأرض أم اختناق تراكمات السنين يطبق على أنفاسه
حاول التقاط أنفاسه أخرج بخاخة وضعها في فمه واستنشق منها بختين علها تفتح تلك الشعب المنغلقة علها تعود إلى عملها مرة اخرى .
أغمض عينيه واتكأ إلى الوراء غفل قليلا ، أفاق على أصوات مجموعة من الشباب يغنون ويتراقصون باستخدام آلات موسيقية بسيطة ، نظر أحمد إليهم أثناء مرورهم أمامه محدقا في تلك الفرحة التي تكاد تقفز من عيونهم وتلك الضحكات تنطلق من قلوبهم تشع البهجة في المكان .
تسربت الفرحة والسعادة في غفلة منه إلى قلبه شيئا فشيئا وأخذته بعيدا هناك في أروقة الماضي إلى ذلك اليوم ، يوم زفاف أخته الوحيدة دعاء حيث بيتهم يعج بالحضور الفرحين ورقصات بنات خالاته وأخواله تملأ المكان بهجة صوت الموسيقى والغناء يكاد يهز البيت , سعادة أمه التي تكاد تقفز من عينيها الفرحة وتوزعها على الجميع
نظر إلى أخته العروس الجميلة أثناء تجهيز أشيائها استعدادا للذهاب إلى صالون التجميل ،
أخته الصغيرة التي فتحت عينيها بين أحضانه وتشربت عطفه واهتمامه , تذكر يوم ولادتها وفرحته بها لأنه كان يعاني من الوحدة ، ومر خلال عقله شريط حياتهما معا بحلوها ومرها ، ودخل عليها غرفتها وسط فرحة البنات احتضنها حضنا سريعا وقال لها بصوت خافت : هتوحشيني يا دعاء
اهتزت الدموع في عيون دعاء وحاولت أن تخفيها لكن أحمد ذهب مسرعا قبل أن ترد وكأنه أراد أن يعفيها من عناء الكلام .
أحمد الفتى الرومانسي الشاعر الذي تميز من يوم ولادته بالرقة والأدب الجم ، عرف عنه مشاعره الجياشة واحساسه العالي بالجميع. أحمد يودع الآن أخته التي ذكره وداعها بيوم وداع حبيبته منى…
أحبها منذ الطفولة تدفق حب منى في قلبه وكبر معه كل يوم فأصبح وكأنه جزء من أجزاء جسده أو بعض قلبه
استيقظ أحمد من غفوته ليغادر ذاكرته التي ذهبت إلى الماضي كمحاولة للهروب من الواقع
اعتدل في جلسته تحسنت أنفاسه ، أخرج من جيبه مشطا صغيرا وأعاد تصفيف شعره ولحيته الصغيرة التي أضافت إلى عمره وقارا وجمالا تختلط بها بعض الشعيرات البيضاء مع السوداء لترسم لون أشهب يحاكي بتناغم قصة عمره الذي لم يعرف السعادة ولم يتركه الألم , مشاعره الصادقة منبع الحرمان من تلك السعادة ، فكيف تزوج و أنجب ، عاش عمرا خاليا من ذلك الشعور الدافئ بوجود القلب في مكانه من القفص الصدري .تحول لعروسة ماريونت خشب يتحكمون في خطواتها
الفراق ليس نهاية مطاف بينهما ، منى رحلت بعيد ا مع رجل آخر ، لكن أحمد عاش بقلب مرهون لم يعترف بهزيمة الفراق وكأنه لم يسمع وقع أجراسها تلك الهزيمة منعته أن يشعر بملذات الحياة أضافت هزائم خفية إلى هزائمه وأضافت أحزانا أخرى إلى أحزانه.
تأمل أحمد الرصيف المزدحم بالشخوص وأخذ ينظر إلى وجوههم ، كل واحد منهم يحمل بداخله تراكمات السنين مثله ، قصص مطوية على آلام وأحزان أو على سعادة ورضا أو كلاهما يتخلل الآخر . هم أيضا عرائس ماريونت تحركهم خيوط القيود .
تتحكم القيود مرة اخرى في حياته ، حين أعاد القدر إليه منى بعد وفاة زوجها ، ليقف في ووجهه الجميع ، إياك أن تغضب زوجتك و أولادك ، لا تستطيع أن تتخلى عن أسرتك بزواج ثاني .
تلك القيود تعلن انتصارها دائما على الدين نفسه الذي حلل الزواج المتعدد ….
تذكر والده وهو ينهاه عن تلك النزوة قائلا له : انظر إلى نفسك رجل أربعيني ذو لحية شهباء ، أولادك أصبحوا قرب طولك ، هل تعرف ماذا سيقول عنك المجتمع . مراهق و نزوة منتصف العمر . تمرد أحمد على كلام أبيه قائلا : الأربعيني لا يحب ؟ أو لا يتزوج ؟ ، ” ليس من حقك الحياة “كان رد أبيه أكثر قسوة من القيود حين نهاه عن البكاء في المدرسة بعد إهانة المعلم له بالضرب المبرح ” كيف تبكي أنت رجل ؛ و الرجل لا يبكي “
قيود العمر لا تنتهي بل تتجدد مع كل مرحلة بالعمر نمر بها ، و كأننا عرائس مربوطة في خيوط الماريونت ، تحركنا دون مشاعر .
صافرة القطار تعلن اقترابه ، ليقف أحمد امامه جامدا كالحجر ، لم يصعد أحمد ليعود الى البيت ، القيد مفروض عليه ، عاد إلى كرسيه بالمحطة وجلس …
شعوره أنه عبد للقيود وللمجتمع يقتله ، العبد لا يمتلك رفاهية الحب ، أطرق برأسه قليلا وشعر برغبته في البكاء ، لكن الدموع اختنقت بداخل حلقه وعينه فالرجل لا يبكي ، هكذا قال له والده وزرع فيه نبتة خنق المشاعر وقتل دموعه .
عادت صورة أخته دعاء إلى عقله المجهد ، حين عادت تشكو زوجها ومعاملته السيئة وشكوكه بها واكتشافها تعاطيه المخدرات ، تستنجد بهم ، انتفض أحمد يومها معلنا غضبه الشديد يطالب بطلاقها ، اندفع بالسباب والشتائم على ذلك الرجل اللعين الذي أخذ منه أغلي فرحته أخته ، و لم يحافظ عليها. صدمته جاءت كبيرة من والديه يوقفان ثورته ويهدئان روعته ، ليجد قيدا جديدا يضاف إلى عمر دعاء حين سمع والدته تقول : أنت في عمر٣٧ لا يجوز الطلاق لأنك لن تجدي من يتزوجك ومعك أبناء ، أنت ابنة أصول من عائلة ، بنات العائلات لا تطلق .
صدم أحمد بقيد جديد وعجيب بنات العائلات لا تطلق
ولماذا يضيفون قيدا جديدا يحطم الأمل في السعادة والأمان ، يحرمون ما حلل الله
صوت وصول القطار الثاني دفع أحمد للصعود إليه ليصل بيته يجرجر أذيال الخيبة والقيود . بأحزانه مارس الحياة بروتينها المعهود ، جلس مع أبناءه وزوجته بلا قلب وعقل ليمارس دوره باتقان كعرائس الماريونت .
وجد ابنه الصغير يتابع أفلام الكارتون ، جلس إلى جانبه في صمت يشجعه على المشاهدة
تابع الفيلم الكرتوني مع ابنه وضحك كثيرا بأعلي صوته اختلطت ضحكاته مع ضحكات ابنه علي أحداث الفيلم
واشتدت ضحكاته تخرج من أعماق أبعد من قلبه لكن الضحكات اختلطت ببعض دموع تركها تزحف على خده في ترقرق وانسياب وكأنها دموع الضحك
لكن في حقيقة الأمر لم يكن أحمد تدمع عيناه ضحكا إنما كان يبكي مرتديا قناعا جديدا في محاولة يائسة لكسر وتحطيم قيد قديم .