شعر وحكاياتعام
قصة قصيرة/ صرخة الأوتار
بقلم الدكتور حمد حاجي/تونس
حين وصلنا لبيت جدتي بعد غربة دامت عامين .. تحلق اخوتي حوله .. كأنما استيقظ .. ممدَّدََا، عبر أرضية الردهة المشمسة، كما شبح غياب يكشف عن أسنانه واحدة بيضاء وأخرى سوداء بينهما فجوة غائرة..
رفعنا بقية الأغطية عنه .. ما أضخمه.. السيقان .. إبرالدوَّاسة.. جسمه الجاثم على الأرضية.. الورنيش لازال لامعا رغم كل هذه السنوات..
لم نكن نعرف كيف نضبط أوتاره .. بقبضة صغيرة نطرقها على المفاتيح الصغرى ترتعد أنغام أوتاره.. وتخرج سوناتا غريبة كالرعد..
وحين تلامسه أناملنا الصغيرة يتضخم ..بكل لمسة على البيانو نغمة هادرة وحتى البيت على اتساعه يهمهم وترعد السلالم مثل ضوء مرتعش في الهواء..
وتوقفنا حين سمعنا جدّتي ثائرة : “لا تلمسوه”..
طردتْ إخوتي مولولةََ وأمسكتني من يدي وقادتني الى درج ينزل الى الدهليز وأدخلتني إلى غرفة مظلمة.. ومدَّت لي هاتفها الخلوي..
– اطلب .. سنهاتف خالك بسوريا..! لا تقل لأحد أنك طلبت الخال..
ودسَّت بجيبي حلوى وأوراقا مالية.. بعدما وعدتني اللعب بالبيانو..
– ألووو.. خالي .. هذه جدَّتي .. تريد أن تحادثك ..
وقفزتُ..صعدت المدارج جريا الى فساح الحديقة..
ا===========
كل شيء بدا معتادا.
سيَّاحٌ يذرعون الساحة، مستمتعين بشمس خريفية نهاية الأسبوع.
رغم أن الإنارة خافتة فالصباح جميل ..وارتعاش أوراق الأشجار ظلَّ منكفئا يداعب نسمته اللطيفة. وأمهات مع صغارهن ينفخن بالونات بهيئة حيوانات. وحولهنَّ تحلَّق الأطفال يراقبون بافتتان. حتى عينا القط حين يذهب ويجيء لم تكونا لتخيفا الطيور، ومواء صديقته لم يكد يُنفِّر الحمائم المترنحة على قاعدة قباب الجامع يمينا..
وشمالا، سقوف الأكشاك تشحُّ مزاريبها ويفتر صبيبها..
وبالوسط حيث ردهة الساحة، لا ينفك صنبور النافورة ينزف ويقطر حتى يشحَّ عظمه،
كنت أراقب المشهد..
وما إن قرع منبه سيارة مارة بسرعة جنونية حتى انفجر سرب حمائم في الهواء، ودبَّ الفزع في ذلك الجزء من القرية .. لتغمر الفوضى مكانا كان تحت الضوء والسكينة..
هنا طفل شرع يبكي. فسارعت تهرع اليه أمه تضمه بين ذراعيها.
وفي ذات الضجيج ..هرولت جدَّتي إلينا ..ها هي تأخذني من يدي تندفع بي عبر الباب الخارجي لغرفتها وتتقدم إلى الداخل، دلفتُ وخلفي كُتِمَ ضجيج الساحة، واعترضني سكوت غريب وتملكتني رهبة عارمة حينها ، أجلستني على مقعدها وبدت زائغة البصر ساهمة حزينة.
– خالك بطريق العودة..!
قفزتُ..ووواووواوو
وأردفت أسألها:
– وكم عمر خالي الآن..
– يبلغ من العمر ستا وعشرين سنة انتدبوه و سافر عبر ليبيا ثم الى سوريا تقول مخابرات كثيرة أنه ارهابي تونسي خطير يقيم بالحسكة على التراب السوري..
وها هو اليوم عائد..
وانتابني هوس عظيم رهيب .. كيف لجدَّتي أن تسمح لي بالتواصل مع هذا الشبح “الارهابي”..حتى وان كان من أقاربي..
وكانت كلما وقفتُ لأنظر من النافذة تردعني وترصُّني حتى يغمرني الكرسي..
بفم مفتوح ورأس عارية و يد على الصدر وثُقبين من دم بالخاصرة.. تحت شمس عالية
يستفيق… يقف.. يتقدم..
وفي زرقة سماء الصيف ، يسير، عبر الدروب الوعرة، مثخنا بالجراح يمضي مستسلماً لحفيف السنابل. يطأ العشب الندي، تؤلمه الرطوبة، يصيح..
– لا بدَّ لي أن أعود..
بينما ترك الريح تلعب برأسه العارية لبعيد مثل بوهيمي.. سعيدا، كان.. يفكر بالعودة للوطن..
ويمرر عليه الليل سدوله..
…ويرخي ..
على مشارف القرية، التي تركها مغادرا منذ عام، لجبهة التقاتل، ظلت خلفه تأكل غبارها. تحلل جثث أهلها تحت الهاجرة، حتى مزاريبها تفتّتها جرذان الصدأ.
لم تفارقه دبَّابات العدو.. دائما تخطر كذباب يمرح في مبولة حانة قديمة..لكنه اليوم فرَّ..
أمامه..
ثمة، ساعة لا تدق. وصومعة تهبط و بحيرة هناك تصعد،
واستوت بعينيه المئذنة عالية..
ثمة عربة صغيرة مهجورة في الحرش، مزينة بالشرائط المزركشة،
يجرُّها إخوتي مقنعين بأثواب التخفي والتمثيل..
أسرعوا إليه ..
– من الحرب ، كيف رجعت..؟
استند على اثنين منهم ، حمله كبيرهم زقفونة ..
… متألما، بين اثنين..لكن مازال حيَّا.. ويجهد نفسه كي يصل..
منسحبا بين الأزقة المنتنة، يجر ساقيه وروح الرعب تقترب من أطرافه.
أوصله الأطفال، هنا استند إلى خشبة الدار المحروقة، البوابات ذابلة، غائمة مثل كؤوس الكحول الفاترة.
كاد يسقط بين اغفاءتين و استيقظت أكثر الأحلام كآبة.
ناضجاً للموت تقوده رجلاه إلينا..
من النافذة، أرقبه كثيرا ما تخفيه عني أشجار حانية وارفة، تضرب بأوراقها بلورنافذتي..
أما جدَّتي فجالسة في كرسيّ ضخم، شابكة يديها، في منتصف الكآبة كانت..
ترتجف ، على أرض الحجرة، تهتز في جلبة قدماها الرائعتان الراعشتان..
باهتة صورتها خلف الشمعدان، وبين طقطقة أخشاب تحترق بمدفأتها، يذهب وجهها ويجيء..
شعاع رفاف يتسكع على وجنتيها، يرفرف في بسمتها..
وعلى رقبتها الملساء تتسكع ذبابات شال وردي.. ترفعه وتنزله..
صدرها، من تحت القميص الشفاف يرتعش كعصفور تحت زخات المطر..
ها هو يدلف ، وبحضنها يرتمى منهكا غائر العينين ..
قبَّلها بلطفٍ بين عينيها الواجمتين ..دفعتْ رأسه إلى الخلف…
“وآو .هذا أنت.. حيَّا..!”
متهالكا طبع بقية قبلاته الضاحكة على وجنتيّ .. قرف كلها كانت.. ليتني لم أهاتفه!
ا=====ا
ومازالت جدَّتي تُضمِّد جراحه.. تفكُّ أزرار بزَّته العسكرية وتنزع شظايا رصاصات بأطرافه..
حتى ندَّت منه صيحة مفزعة .. على اثرها قفز إلى البيانو.. وأهوى على تلك الآلة يفتَّت أزرارها .. يكسر بلوراته و سيقانه وحبات من كرستال تزيّنه ..
متبعثرا سقط البيانو..
كان و هو ينهال عليه مزمجرا كأنما يفتت قلبي أجزاء..
– أمي .. الفن حرام.. الم يقل شيخي الموسيقى حرام..
وحاولت جدتي تهدئته لكن سقط البيانو على الأرضية وتهاوى ..
ولما سمعتُ صفارات سيارات الشرطة .. خشيت أن يستعملني درعا بشريا.، قفزت من النافذة ..
و فيما كانت جدّتي تحاول تجميع أجزاء البيانو كانت أرجل الرّائحين و الغادين من الجيران و رجال الشرطة..
تتخطى جثة هامدة..