فلسفة الرؤى في رواية مهند الأخرس
سليم النجار
من سلبيات واقعنا الثقافي ندرة الاهتمام الموجه إلى الإبداع الفلسفي ( بل وحتى الفلسفي المتميز بوجه عام ) ؛ على أهميته وأوليته في بنية الثقافة في أي مجتمع كان . وربما كان مرد ذلك ندرة الإبداع الفلسفي نفسه ؛ ولكنني أظن أن هناك سببا آخر أبعد من هذا ؛ وهو أن كلمة ” إبداع ” نفسها قد ارتبطت في أذهان كثير من المثقفين بالإبداع الفني ( وخاصة الإبداع الأدبي ) ؛ دونما انتباه لمكانة الإبداع الفلسفي بما هو إبداع فلسفي ؛ وبحكم صلته العميقة بالإبداع الروائي على سبيل المثال ؛ بل وبحكم ضرورته التأسيسية أحيانا للنقد الفني في عمومه .
ورواية ” الجرمق ” للكاتب مهند الأخرس ؛ هو من الأعمال الفلسفية الإبداعية الروائية التي تستحق عن جدارة اهتماما واسعا يبرزها ويكشف عن قيمتها لجمهور المثقفين على اختلاف اهتماماتهم .
إن أول ما يلفت النظر – اللوحة المعبرة لغلاف الرواية ؛ هو واسع الإيحاء ؛ وعميق الدلالة .
ولقد تناول الكاتب مهند الأخرس – باعتباره عبارة موجزة للغاية ؛ هي : ” الهوية في الاختلاف ” . كما تناول الأخرس اللوحة كدلالة من جهتين : من حيث تلخص العلاقة المثلى بين النص والهوية بوجه عام ؛ باعتبار أن الأشخاص يحملون شيئا من الهوية ؛ ولكنها ينبغي أن تختلف وتتميز عنها : من حيث إن حركة الأشخاص داخل الغلاف تتجاوز ذلك أيضاً إلى التعبير عن جوهر الصراع الدائر في العالم العربي بين الباحثين عن الهوية أو الجذور القديمة ؛ في مقابل المؤكدين لأهمية عنصر الأختلاف المتمثل في مسايرة الزمن بتحولاته وتقلباته .
تتلخص فكرة الغلاف أن وعي الإنسان بذاته أو بهويته ؛ وينبثق بالظبط حينما يبدأ في إدراك تميزه وإختلافه عن صورته المروية في نص الرواية ؛ أي عن صورته التي تتبدى أو يظهر عليها في الواقع وفي عيون القرّاء ؛ فهذه الصورة الأنا ” الفلسطيني ” أو ” اللاجئ ” أو ” المشرد ” إن جاز التعبير .
ويحضرنا هنا قول ابن عربي : ” أتحسب أنك جرم صغير .. وفيك انطوى العالم الأكبر ” . يجسد هذا التصور المروي للفلسطيني في جانبه الأخلاقي . وفضلا عن ذلك فأن اعضاء الفلسطيني التي ظهرت في لوحة الغلاف ؛ من حركة يد ؛ ورأس ؛ وعيون ؛ وخاصة الوجه والعين هي مرآة لعالمه الباطني : انفعالاته ومشاعره وعواطفه . وهنا نستشهد – بقول هيغل : العين يبصر بها الإنسان ويكون مبصراً يرى ويُرى .
ونجد هذه الانعكاس للرواي ماثلا في المحاورات الأفلاطونية بين صورتي سقراط التي رسمها أفلاطون ؛ فعندما يتحدث سقراط لاتعرف من الذي يتحدث : هل هو سقراط أم أفلاطون وبالتالي لانستطيع أن نعرف الوجه الحقيقي لأي منهما . وهذه التقنية الفلسفية موجودة في غلاف رواية الجرمق ؛ فأنت لاتعرف من يعبر اللاجئ ؛ أو الكاتب ؛ فكلاهما يتحدثان عن صورة الفلسطيني .
كما تم توظيف تقنية خيال الظل ؛ في الغلاف ؛ وهذا الفن أن حق لنا التوصيف وجدناه عند البدائيين أمثال قبائل الزولو – فضلا عن قدماء المصريين والأغريق واليونان – لا يميزون بين ظل الإنسان وخياله وبين روحه ؛ ويتجنبون النظر إلى صورهم المنعكسة على صفحة الماء كي لايلتهمها تمساح أو جنيات فتسلب أرواحهم ؛ وربما يكون هذا هو الأصل البعيد لأسطورة نرجس ؛ ذلك الفتى المليح الذي هلك من طول تأمل الجميلة في الماء . ولعل الكاتب قصد من هذا الغلاف ؛ دفع القارئ هذه المرّة أن لا ينظر إلى الماء ؛ بل إلى صورة الجميلة فلسطين ؛ والمصير هذه المرّة مفتوح ؛ بمعناه الحق حينما تلمس المعنى فيما يظهر الوعي أثناء التأمل للصورة .
ولاشك ان مواضيع كثيرة من الغلاف تفصيلات واستطرادات ؛ يكتشفها القارئ بنفسه . ولكن غلاف رواية الجرمق في مجمله محاولة لتقديم إسهام حقيقي في مجال الإبداعي الروائي الفلسفي .