بقلم : د . محمد حسن كامل
رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب باريس
ابتسمت مدام (( بيديه )) وكأنها تداعب الذاكرة وتستلهم صوراً من حياة أمير الشعراء على تلك الأريكة الخشبية الخضراء في غابة بولونيا الشهيرة وعلى ضفاف تلك البحيرة ، كانت الشمس تتسلل من بين أشجار الغابة لتُقبل صفحة الماء الذي تحول إلى وادي من ذهب وقالت ياولدي :
وُلِدَ أمير الشعراء أحمد بك شوقي في القاهرة (16 أكتوبر 1868 – 14 أكتوبر 1932)،كاتب وشاعر مصري يعد من أعظم شعراء العربية في العصور الحديثة ، يلقب بـ “أمير الشعراء” , الأب شركسي والأم يونانية تركية . تلك التركيبة من جينات مختلفة جعلت له ثقافة واسعة وفطنة متألقة .
كانت جدته تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل , وكانت على جانب من الثراء , كفلت حفيدها ونشأ معها في القصر، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح، فحفظ قدرًا من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظًا واستظهارًا، فبدأ الشعر يجري على لسانه.
وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة الحقوق سنة (1303هـ/1885م)، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها حديثًا، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت نظر أستاذه الشيخ محمد البسيوني، ورأى فيه مشروع شاعر كبير.
بعد ذلك سافر إلى فرنسا على نفقة الخديوي توفيق، وقد حسمت تلك الرحلة الدراسية الأولى منطلقات شوقي الفكرية والإبداعية، وخلالها اشترك مع زملاء البعثة في تكوين (جمعية التقدم المصري)، التي كانت أحد أشكال العمل الوطني ضد الاحتلال الإنجليزي. وربطته حينئذ صداقة حميمة بالزعيم مصطفى كامل، وتفتّح على مشروعات النهضة المصرية.
في بعثته العلمية إلى فرنسا، التي جاءت بناء على رغبة من عزيز مصر الخديو توفيق باشا – كما سماه أحمد شوقي في مقدمته للشوقيات – قضى شوقي أربع سنوات في دراسة الحقوق، على أن يقضي عامين في مدينة مونبلييه وآخرين في باريس. يقول شوقي عن قصة هذه البعثة: «ثم لم يحل عليّ حول في الخدمة الشريفة – بالخاصة الخديوية – حتى رأى لي الخديو أن أبلغ التأديب في أوربا، فخيرني في ذلك، وفيما أريده من العلوم. فاخترت الحقوق لعلمي أنها تكاد تكون من الأدب، وأن لا قدم فيها لمن لا لسان له.
فأشار الأمير عليّ عندئذ أن أجمع في الدراسة بينها وبين الآداب الفرنساوية بقدر الإمكان. ثم سافرت على نفقته فكنت أُنْقَد ستة عشر جنيها في الشهر، نصفها من المعية ونصفها من الخاصة.
وأعطاني يوم سفري مائة جنيه، أرسل نصفها إلى مدير الإرسالية ليهيئ لي جميع ما أحتاج إليه حال وصولي، ودفع إليّ النصف بيده الشريفة. وما أنس من مكارمه – رحمة الله عليه – لا أنس قوله لي في ساعة الوداع: «لا حاجة بك منذ اليوم إلى أهلك فلا تُعنتهم بطلب النقود واعنت أباك هذا الغنيّ». فركبت البحر لأول مرة أؤم مرسيليا، فلما قدمتها وجدت مدير الإرسالية في انتظاري بها. فأخبرني أنّ الأمير يأمر بأن أقضي عامين في مدينة مونبلييه وآخرين في باريز. وكان المدير قادمًا من مونبلييه للقائي فعاد بي إليها على الفور، وهنالك قدّم لي جميع ما أحتاج إليه، وأدخلني في مدرسة الحقوق الجامعة، ثم رجع إلى العاصمة».
مما لاشك فيه ان محمد على وأسرته كانوا على وعي تام بقيمة العلم والثقافة والفكر والفن .
غير أن ديوان شوقي – الشوقيات – لا يقدم لنا من أثر هذه السنوات الأربع في شعره، إلا ثلاث قصائد ومقطوعة من أربعة أبيات. وترتبط القصائد والمقطوعة ارتباطًا وثيقًا بباريس، وليس فيها التفات – من قريب أو بعيد – إلى مدينة مونبلييه وعامين عاشهما شوقي فيها، فقد استأثرت باريس بالاهتمام الأوحد، وهو أمر مفهوم وطبيعي. سواء كان هذا الاهتمام مصاحبًا لإقامة شوقي فيها كما حدث بالنسبة لقصيدة «باريس» ذاتها أو قصيدته «على قبر نابليون» أو مقطوعته عن «ميدان الكونكورد»، أما قصيدته الثالثة «غاب بولونيا» فقد أبدعها قرب ختام حياته في زيارة إلى فرنسا بصحبة ولديه عندما أخذهما ليتعلما هناك كما تعلم، والقصيدة التفاتة إلى الماضي، وحديث عن شوقي الذي ارتبط في مجال زهو الشباب وافتنانه ونشاطه العاطفي بغابات بولونيا التي يقصدها العشاق والمحبون.
هنا ياولدي كتب شوقي قصيدته في غاب بولونيا
قائلاً :
يا غاب بولونٍ ولي ذمم عليك ولي عهودٌ
زمنٌ تقضّى للهوى ولنا بظلّك، هل يعودُ؟
حلمٌ أريد رجوعه ورجوع أحلامي بعيدُ
وهبِ الزمانَ أعادها هل للشبيبة من يعيدُ؟
يا غاب بولونٍ وبي وجدٌ مع الذكرى يزيدُ
خفقت لرؤيتك الضلوعُ وزُلزل القلبُ العميدُ
وأراك أقسى ما عهدت فما تميل ولا تميدُ
كم يا جماد قساوةً كم هكذا أبدًا جحودُ؟
هلا ذكرْت زمان كُنّا والزمان كما نريدُ؟
نطوي إليك دجى الليالي والدجى عنا يذودُ
فنقول عندك ما نقول وليس غيرك من يعيدُ
نُطقي هوى وصبابةٌ وحديثها وترٌ وعودُ
نسري ونسرحُ في فضائك والرياحُ به هجودُ
والطير أقعدها الكرى والناسُ نامت والوجودُ
فنبيت في الإيناس يغبطنا به النجم الوحيدُ
في كلّ ركن وقفةٌ وبكل زاوية قعودُ
نَسْقي ونُسْقى والهوى ما بين أعْيننا وليدُ
فمن القلوب تمائمٌ ومن الجنوب له مهودُ
والغصن يسجد في الفضاءِ وحبّذا منه السجودُ
والنجمُ يلحظنا بعينٍ ما تحولُ ولا تحيدُ
حتى إذا دعت النوى فتبدّد الشملُ النضيدُ
بتْْنا وممّا بيننا بحرٌ، ودون البحر بيدُ
ليلى بمصر وليلُها بالغرب وهو بها سعيدُ
هكذا تأثر شوقي بتلك الغابة الباريسية
فهل تأثر صاحبنا بوحي الأدب على أريكة شوقي …؟
هذا ما سوف نعرفه في الحلقة القادمة .
زر الذهاب إلى الأعلى