د. أحمد بلخيري/ المغرب
للكتابة الدرامية مقومات وأسس فنية تعتبر أساس البناء المعماري الدرامي، التي لولاها ما اكتسبت تلك الكتابة صفتها أي الدرامية. فليس كل كلام فيه حوار بين شخصيتين، أو أكثر، عمل فني درامي جدير بهذه الصفة. فقد يكون الحوار، كما هو الشأن في الكلام العادي بين شخصين أو أشخاص، ولا توجد الدرامية. هذه الأخيرة، والعمق الدرامي الناتج عن كيفية نسج الأحداث الدرامية وبناء الشخصيات، هما اللذان يجعلان نصا دراميا ما يندرج في خانة الإبداع، ويكسبانه الفرادة والتميز.
ومنذ قراءاتي لنصوص درامية للكاتب الدرامي/المسرحي عبد الإله بنهدار، لاحظت توفر نصوصه الدرامية على مقومات الإبداع وعلى رأسها روح الدراما والعمق الدرامي. هذه النصوص تكشف، فضلا عن مهارة الكتابة الدرامية عنده، على تكوين جمع بين الفن، والثقافة، والتاريخ. يتضح كل هذا في النصين الدراميين التاليين على سبيل المثال: “عيوط الشاوية” و”الباهية”. لقد تم تقديم، من خلال هذا النص الدرامي الأخير، صورة عن مغرب نهاية القرن التاسع عشر في قالب درامي انطلاقا من منظور المبدع الدرامي، وليس منظور المؤرخ، وإن كانت مادة هذا النص الدرامي الأخير هي التاريخ.
إن توفر نصوص عبد الإله بنهدار على مقومات الدراما، أي على مقومات الإبداع الدرامي، جعل منه أحد فرسان الكتابة الدرامية بالمغرب اليوم. فارس الكتابة الدرامية عبد الإله بنهدار هو كذاك، لأنه عالم بأسرار الكتابة الدرامية وبلاغتها؛ في كتابته الدرامية/المسرحية الدليل على هذا. والفكرة التي تُقدم في قالب درامي، وأُسُّه الصراع الدرامي، هي حصيلة رؤية ثقافية خلاصتها جعل الدراما/المسرح فنا تنويريا.
هذا النص الدرامي تمت كتابته انطلاقا من نص روائي للأديبة الفلسطينية الأردنية سناء الشعلان هو “أعشقني”. من المفيد عقد مقارنة بين هذا النص الروائي منطلق الكتابة الدرامية هنا وبين النص الدرامي/المسرحي “البعد الخامس”. ولئن كان هناك اختلاف بين العنوانين، فإن هناك رابطا جامعا بينهما إنه العشق والحب. وليست هذه هي المرة الأولى التي يعد فيها نصا دراميا انطلاقا من نص سردي. لنتذكر مسرحية “النمس”، وهي من إخراج أمين ناسور، والتي أعدها دراميا عبد الإله بنهدار انطلاقا من رواية “هوت ماروك” لياسين عدنان.
تم تقسيم هذا النص الدرامي “البعد الخامس” إلى “ما قبل رفع الستار” ثم المَشاهد. قدم “ما قبل رفع الستار” مفاتيح مضمون النص. هذه المفاتيح يمكن اختزالها في “الحب”، “الإعدام”، “الخراب الإلكتروني”، “التجربة العلمية”. وهو يتكون من حكايتين، ولكل حكاية مفرداتها وحقلها الدلالي الخاص بها. الحكاية الأولى حكاية حب بين “شمس” و”خالد”. والحكاية الثانية تتكون من شخصيات عديدة منها شخصية “شمس” بصفتها موضوعا في الحكاية الثانية. الرابط بين الحكايتين معا هو شخصية شمس. مع فارق أساسي هو أن شمس في الحكاية الأولى شخصية مفعمة بالحب. أما الحكاية الثانية فتقدمها باعتبارها معارضة وزعيمة وطنية لحكومة “المجرة” تستحق الإعدام. وقد أُعدمت.
إنها زعيمة وطنية لحزب هو حزب الحياة، الذي اختار لونا لشعاره هو لون الورد. ولهذا، فإن شخصية شمس في الحقيقة تجسيد، في النص الدرامي، لفكرة الحياة والتشبث بها. والحب عنوان الحياة، أما الإعدام فعنوان الموت. الإعدام، بعد التعذيب، خضع تنفيذه لتراتبية عسكرية صارمة. فمن جهة، هناك الجهة العليا الآمرة بإعدام شمس، وهي غير ظاهرة في النص؛ ومن جهة أخرى، هناك الجهة الموكول إليها التنفيذ حتى وإن كان هذا التنفيذ يتعارض مع مشاعر المنفذ. إن الأمر بالتنفيذ يتطلب التنفيذ فقط بعيدا عن لغة المشاعر، التي قد تؤدي إلى التعبير عن موقف أو وجهة نظر. وهذا ما لا تستسيغه حكومة المجرة. وهذا ينطبق على شخصية باسل المهري في النص.
تجري أحداث النص الدرامي خارج كوكب الأرض حيث توجد “حكومة المجرة”. اختيار هذا الفضاء مسرحا للأحداث حرر النص من قيد المكان. وبهذا يصبح صالحا لكل مكان، وبصفة خاصة لكل مكان يتم فيه إعدام الحب أي إعدام الحياة. أما الزمن الدرامي فيه فزمن استباقي، إنه سنة 3010.
في الحكاية الأولى يوجد العشق والحب. وفي الحكاية الثانية يوجد الخيال العلمي. في الخيال العلمي يكون المزج بين الأدب والفن والعلم، في إطار المتوقع من “الاكتشافات العلمية”. وفي هذا النص الدرامي/المسرحي كان موضوع “التجربة العلمية” هو جسد شخصية باسل المهري. “تجربة” نتج عنها جسد هجين مركب من جزئين مختلفين لجسدين مختلفين من حيث النوع. رأسه فقط ذكوري هو رأس باسل المهري ذاته؛ أما الباقي، فجسد شمس. ما هو البُعد أو المرمى من هذا التركيب الجسدي؟ في الرأس “دماغ خشن”، كما ورد في النص، هو دماغ باسل المهري؛ أما بقية الجسد الأخرى فجميلة، إنها تتعلق بجسد “شمس”. لماذا تشويه الجسد الجميل ب”دماغ خشن” لا يعرف سوى تنفيذ الأوامر الصادرة تراتبيا وما على المأمور إلا التنفيذ؟ الظاهر هو خدمة الإنسانية من خلال التغلب على الموت. لكن، مع ذلك، يمكن تقديم جواب آخر لن يكون إلا تأويليا انسجاما مع سياق الأحداث الدرامية.
هذا الجسد الهجين المركب لم تتقبله شخصية باسل المهري بسبب المجتمع وأعرافه وتقاليده. لقد تم تشويه جسده تحت ذريعة التجريب، وخدمة الإنسانية، والسبق العلمي. هذا التشويه يمكن اعتباره علامة مسخ (غروتيسك: Grotesque) لها دلالتها في النص، باعتبار باسل المهري جلادا أعدم “شمس” أي أعدم الحياة والحب انصياعا منه للأوامر.
وحين تحليل كل علامات هذا النص الدرامي/المسرحي وأبعادها، يمكن الوقوف عند الجانب التنويري فيه. التنوير ركن أساسي من أركان الكتابة الدرامية/المسرحية عموما عند فارس الكتابة الدرامية عبد الاله بنهدار.
زر الذهاب إلى الأعلى