“دراسة علمية” طلاب الطب “أسعد المكتئبين” ونصائح لتجاوز الأثر النفسي
كتبت : أماني ياسين
يظل الطبيب على مدى سنوات عمره طالباً للطب يقضي سنواتٍ عديدة في الدراسة والتطبيق ، فلن يكون إجتياز مرحلة الثانوية العامة والصعود إلي حُلمه هو الاصعب والأشق كما كان يظن ، بل هو مجرد طريق طويل ملئ بالجهد والتعب و الاحتمال وكبت المشاعر والأفكار المؤجلة ، وقد انتبه العلماء مؤخراً إلي ظاهرة” الموت المفاجئ والانتحار” التي انتشرت بين الأطباء ، واستهدفت الدراسات في الآونة الاخيرة تفسير اسباب الإكتئاب الذي يصاب به طالب الطب في مراحل عمره المختلفه مما يجعله يقدم على الانتحار او يتعرض للموت المفاجئ.
الصدمة :
سرعان ما يدرك طالب الطب مع بداية عامه الدراسي الأول بالكلية أن هذه الضغوطات التي عانى منها في الثانوية العامة ما هي إلا مهارةُُ ضئيلة من مهارات التكيف التي عليه تطويرها لإجتياز كلية الطب ، وهنا تأتي “صدمة البداية “.
وقد أظهرت دراسة حديثة بعنوان “نوعية الحياة لدى طالب الطب ” ، بين طلاب الطب الألمان في الجامعات الدولية أن خطر الإصابة بأعراض الاكتئاب أعلى بنسبة 2.4 مرة من متوسط السكان. كما أظهرت النتائج ان 23.5% من طلاب الطب الألمان ظهرت عليهم أعراض الإكتئاب ومحاولات انتحار..
فهذا الجهد المبذول لدى طالب الطب لمحاولة التكيف بين الجهود المعرفية ومشكلة الإجهاد الذي يواجهها اثناء الامتحانات ، يعرضه للقلق الدائم والتوتر المصاحب بالخوف من اللوم والفشل فيجعله يفتقر إلي التفاعلات الإجتماعية وممارسة الرياضات ويفضل العزلة.
الموت المفاجئ وزيادة معدلات الانتحار :
في العام الماضي شهدت كلية الطب جامعة المنصورة حادثتين متفرقتين لطالبتين اقدمتا علي الانتحار احدهما في يونيو والأخرى في نوفمبر بتناول حبة الغلال السامة وأكدت أسرتاهما مرورهما بحالة نفسية سيئة بسبب عدم ترتيب احدهما على الدفعة رغم تفوقها ، والأخرى بسبب عدم قدرتها على مواصلة المذاكرة والخوف من الامتحان.
في عام ٢٠١٥ ، كشفت دراسة بالمركز القومي للبحوث اجرتها الدكتورة داليا المسلمي بين طلبة كلية الطب بجامعة القاهرة ، تهدف الدراسة إلى معرفة نسبة انتشار التوتر والاكتئاب والعوامل المساهمة لحدوث هذا بين طلبة كلية الطب ، وقد ضمت عينة الدراسة 600 طالب, وتم أخذ 100 طالب من كل سنة دراسية بالكلية .
وأظهرت النتائج أن 54.3% من طلاب الطب الذين شاركوا في الدراسة يعانون من الاكتئاب, كما أن هناك 36.8% من الطلبة يعانون من التوتر, وبالنسبة لوجود الاكتئاب مع القلق, فكانت النتيجة 27.8%.
وأظهرت الدراسة أن الإقامة فى المدينة الجامعية والبعد عن الأهل والمعاناة من ازدحام المواصلات من الأسباب المؤدية للاكتئاب بصورة كبيرة.
فبالرغم من معرفة الطالب بأن طبيعة الدراسة بكلية الطب محاطة بالتحديات والضغوط والجهد البدني والذهني ، إلا أنه ليس على درايةٍ تامة بأنها لا تزيد على كونها ضغوط “الحياة اليومية” التى يجب علي الانسان أن يستقبلها بإرادةٍ قوية لتخطي مشكلاتها وتحقيق النجاح.
فهناك دراسة أجراها الدكتور علي الزهراني بجامعة الطائف علي طلبة كلية الطب والعلوم الطبية لكشف معدلات الإكتئاب والانتحار لدى الطلاب ، وانتهى فيها إلي أن 41% من عينة طلاب الطب يعانون الاكتئاب وأن قرابة 19% من هؤلاء المكتئبين اقدموا علي التخلص من حياتهم بالانتحار ، بسبب تعثرهم أو أنهم غير قادرين على إكمال الدراسة ، أو بسبب تسلط بعض أعضاء هيئة التدريس في بعض المواد، وضغط الأهل .
ويقول الدكتور علي ناصف استاذ علم الاجتماع بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالمنصورة ، انه ينبغي علي الطالب ان يسعى إلى هدفه بإدارة الوقت بفاعلية وان يدمج نفسه في تحقيق اهداف اخرى غير دراسية تغرسه في المجتمع فلا ينعزل سواء على المستوى الشخصي او الاسري او حتى على المستوى القومي والدولي “كان يشارك في منافسة دولية في مسابقة معينة”.
ويؤكد ناصف ، علي ضرورة دحر الافكار السلبية والتعامل مع الواقع وبناء علاقات قوية بين الطالب و أستاذه بحيث تكون علاقة” محفزة ” للنجاح مبنية علي فهم الأستاذ لطلابه واستشعار نقاط القوة لديهم وتنميتها وارتياح الطالب وتقديره لأستاذه.
.
معضلة الدب القطبي :
العديد من الدراسات حول العالم اكدت ان أكثر من 40% من طلبة الكليات العلمية حول العالم يعانون بما يسمي بمعضلة الدب القطبي .ومعناها ، انه من الصعب علي الإنسان عدم التفكير في شئ تم لفت نظره إليه ..
يقول الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي في مقاله “ذكريات شتاء عن مشاعر صيف” لعام 1863، كنوع من التحدي للقراء : “حاولوا ألا تفكروا في الدب القطبي، جرّبوا الأمر إذا أردتم”.
ثم جاء العالم دانيال فيجنر عام 1987 في محاولةٍ منه للبحث عن نتائج تجربة دوستويفسكي عن “التفكير في الدب القطبي ” لثلاث مجموعات مختلفة وقد خلص فيجنر إلي أن محاولة عدم التفكير في الدب القطبي ساهمت في ترسيخ هذه الفكرة أكثر فأكثر في الذهن وساعدت في زيادة التفكير فيها وعدم إمكانية التخلص منها،وهو ما اطلق عليه ” العملية الساخرة”.
فهذه الصعوبات التي يواجهها طالب كلية الطب مع الضغوطات المستمرة من أساتذته وأهله وخوفه المستمر من الفشل وعدم الموازنة بين الجهد والوقت هو ما يعرضه للفشل والإحباط ، بالإضافة إلى “رهاب المرض ” الذي يعانيه طالب الطب نظراً لإهتمامه البالغ بالأعراض المدروسة وهو ما يجعله يعتقد انه مصاب بهذا المرض .ويأتي قلق التشريح هو العنصر الاكثر قلقاً والذي يترك اثرا نفسيا لدى بعض الطلاب كنوع من إصطدامهم بواقع المهنة ، حيث يصاب بعض الطلاب بضيق في التنفس او الإغماء عقب تشريحهم جثة لأول مرة.
ويؤكد خبراء الصحة النفسية أن المشاكل الصحية المتخيلة لدى طالب الطب يمكن أن تسبب قلقاً حقيقياً وكبيراً يجعله ينتظر الموت فيمرض بالفعل او يصاب بالقلق والتوتر ، والأرق المصاحب لهما،كما أن الاكتئاب لا ينتهي بانتهاء الدراسة ، بل إن معدلات الاكتئاب بين الأطباء الأمريكيين الذكور تصل إلى 13%، الي20% . ودائماً ما يتردد المصاب في طلب المساعدة تحت أي ظرف، فعادةً الأطباء يرفضون بشكل قوي أن يصبحوا مرضى.
العلم يخبرك انك لن تكون سعيداً إلي الأبد :
فتعاملك كطبيب مع الدراسة الشاقة ، وساعات العمل الطويلة ،والتشبع بالعلم وفهم المرض ، والتعامل مع الموت والفقدان، يجعلك سعيداً من ناحية لوصولك إلي هذه المرحلة اخيراً بعد سنوات التعب والجهد وفخوراً بهذه الرسالة التي تؤديها والمهنة النبيلة التي افنيت عمرك من اجلها لتخدم البشرية ، ويصيبك من ناحية اخري بالإكتئاب لأن فهم مقتضيات الأمور والوصول إلي منابع المعاناة والتعامل المباشر مع الموت وتقبله ، يجعلك زاهداً راضياً بقضاء الله ، تستشعر معاناة وألم من حولك وتكون من هؤلاء المسميين ب ” أسعد المكتئبين” .