عرفته وتوثقت علاقتي به قبل سنتين تقريبا ، كان قد عاد توا من اميركا التي هاجر اليها عام 2008 هاربا من جحيم الاغتيالات والتفجير والتفخيخ والفوضى التي اجتاحت العاصمة بغداد انذاك .
وقد وصل الى مدينة اتلانتا مركز ولاية جورجيا الامريكية بعد رحلة طويلة عويصة يحمل على ظهره معانته وتاريخه واسرته … فضلا عن المجازفة بمستقبله برغم تجاوزه العقد الخامس من عمر افناه في خدمة الجيش والحصار وضيم ليل العراق الطويل الممتد منذ عقود .. بعد استقراره هناك اخذ يتواصل مع صحبه واقاربه وقد بكى مرار شاكيا فيض الحنين . حينما ساله صديقه بجسارة : ( من بعثك هناك واجبرك على ذلك ) ؟، صمت ثم بكى ، فقال : ( من اجبرك على المر غير الامر منه ).
بعد عشر سنوات تقريبا بعد ان شارف عقده السادس على الانصرام عاد الى بغداد وحيدا .. بعد ان استقر عياله هناك .. لم يصمد وقد استسلم لعصارة الوجد الضارب في الأعماق ، مضيفا في تعليل عودته للعاصمة التي ولد وعاش واحب : ( صحيح ان الطبيعة هناك خلابة والقانون متنفذ والاستقرار متاح والامن بمستوى جيد ، لكني اعمل بغير اختصاصي – الفن والمسرح والاعلام – ثم اني بدات اضعف امام دفقات الحب والانتماء الوطني معززة بمكالمات عدد من الأصدقاء في العراق ممن كانوا ضمنا يشجعوني على العودة حبا منهم على امل ان اقضي بقية عمري بشغل احبه لا يضطرني التوسل او التسول ..
عاد واكتنفه الأصدقاء وحف به الاقربون عاد من بلاد العم سام وما تحمله من حلم لاخرين او فضول معرفي يستحق الخوض .. ظل يردد ويعيد حكايته هناك كل يوم تقريبا وكل ما ساله أصدقائه عنها .. حتى مرت أيام واسابيع … وانتهت سهرات الاستمراء والسمر وهجر الاخرون . حاول ان يجد له عمل فلم يفلح .. أراد حط قدمه باي مشروع يؤمن له قتل الفراغ القاتل فلم يهتد .. ظل يمشي ويمشي قاطعا مسافات طويلة كل يوم .. يمر على العاصمة ويسئل محطاتها وساحتها وشوارعها وحدائقها عن منلوجه ومعاناته.. ( احقا عدت لك يا امي الأكبر الاجمل في حياتي واشعر الان بضيق يخنقني ) .
برغم اتصال اهله من أمريكا واصراراهم على عودته اليهم لكنه اصر على البقاء والموت هنا .. قائلا : ( لم يعد بالعمر بقية ) .. صبر وصمد وتحدى كل من حاوره بذلك .. حتى اتصلوا به أخيرا .. يخبروه بتطورات مؤلمة للاسرة .. ابنه دهس وزوجته مريضة وابنه الاخر يحتاج رعاية، ووضعهم المادي لا يرحم ، في حياة مادية بحتة ان لم تهرب من عجلاتها ستسحقك بلا رحمة – كما قال عنها – ..رايته يبكي يوما .. فاخذته خلسة هامسا : ( لم بكاؤك صديقي ) ؟ .
قال : ( ان اسرتي تناديني .. ولا املك اجرة تذكرة الطيران .. فضلا عما يفترض ان احمله لهم من بغداد بعد هذه القطيعة .. انها الفين دولار يمكن ان تسد حاجاتي وتشعل فتيل الضوء مرة أخرى ) ..
رفعت يدي نحو السماء .. ( رباه احقا .. هكذا يبادل المواطن في وطنه . يا لتفاهة المبلغ في ظل مليارات تنهب كل حين من بلد السواد والنفط.. على طول تاريخنا الممتد من الحنين حتى الانين ..! ) .