ماهر مؤنس
في الأسبوع الماضي، تعارض وقت تقنين الكهرباء مع أوقات دخولي وخروجي من المنزل. بمعنى آخر، أخرجُ صباحاً فتكون الكهرباء مقطوعة، أعود مساءً، كذلك الأمر..
وأجبرني ذلك على الاستحمام بمياه باردة، ولا مشكلة في هذا الأمر في فصل الصيف، لكن المعضلة كانت بالنسبة لي هو “دفق المياه” الضعيف بدون تشغيل المضخّة، والتي تعمل بطبيعة الحال على التيار الكهربائي.
هذه المعادلة الفيزيائية أو الاجتماعية أو المعيشية، دفعتني لتلبية دعوة أحد الأصدقاء بدون تردّد للذهاب إلى حمام السوق، والتمتّع بحمام من المياه الدافئة والقوية.. “تحمّم لتشبع، وخود أد ما بدك مي”.. قال لي صديقي يامن مازحاً.
اعتدنا أن نرتاد حمام الملك الظاهر في دمشق القديمة، قرب الجامع الأموي، إذ نعرفُ وجوه العاملين هناك، ويعرفونا، ويدلّلونا بالمساج والتكييس والتلييف، ويُضيّفونا عادة كأس القرفة إلى جانب كاسة الشاي الخمير، حول نافورة مياه عذبة، وعلى أنغام فيروز أو صباح فخري أو وديع الصافي.
في زيارتي الأخيرة لحمام السوق، قرّرتُ أخيراً التعرّف بشكل وثيق على محمود عجيلي، المعروف ب”أبو أدهم”، أحد أقدم العاملين في حمام الملك الظاهر، والذي يستطيع ببراعة كأغلب العاملين في الحمام، أن يرمي المنشفة المبللة بعد غسلها، لتأخذ مكانها على سلك معدني في أعلى الحمام، ثم يُنزل المنشفة الجاهزة بعصا طويلة ورفيعة.
من مؤدية صغيرة إلى ممثلة قديرة ..قصة نجاح أول فنانة تولت منصب نقيب الفنانين فادية خطاب
من منّا زار حمام الملك الظاهر، ولا يعرف خفّة يد أبو أدهم في لفّ المنشفة على الخصر والأكتاف والرأس، ثم يصرخ بصوت عال “واحد شاي للمعلّم مع سكر زيادة”.
في داخل الحمام الحجري والأثري (يُقال أن عمره يتجاوز مئات السنين)، يدخل زبائن ويخرجُ آخرون، ويتناوب أبو أدهم (37 سنة) منذ نحو ثلاثة عشر عاماً على استقبالهم وتوديعهم، ويُحاول ألا تفارق الابتسامة وجهه رغم ظروف الحياة الصعبة عليه أيضاً.
يتألف حمام السوق عادة من قسمين، برّاني أو خارجي، وفيه تجري عملية تبديل الملابس وارتداء المناشف قبل الدخول إلى الجوّاني أو الداخلي، وفيه على التوالي، غرفة البخار التي نجلس فيها لعدة دقائق حتى تتفتح المسام، ويتحوّل لون الجلد تلقائياً إلى الأحمر، ثم التلييف والتكييس على يدي أبو عبده، الرجل الخمسيني الطيّب، والذي يقلّب الزبون على بطنه وظهره، ويفركه ويدعكه حتى يعود كما ولدته أمه، ثم يسلّمه إلى أبو قاسم، المختص بالتدليك والمساج وطقطقة العظام، ويُمازحه “استلم.. واتوصّى”.
وبعد هذه العمليات، يعود الزبون إلى قاعة كبيرة في القسم الداخلي، في محيطها صنابير من المياه الساخنة المتدلية داخل أوعية حجرية كبيرة، تحت قناطر وقبب تدخل منها أشعة الشمس في النهار، وتستطيع أن تسكب ما تشاء من المياه وتبقى هناك “حتى تشبع”، ويتحول الجلد إلى ما يُشبه رغيف الخبز الطازج قبل الحرب، الطري والساخن والمائل للحمرة، وتفوح منه رائحة الطيبة.
سألني أبو أدهم “كيف لقيت الحمام اليوم”
–والله آخر رواق.. الله يعطيك العافية.. ما في أحلى من حمام السوق.
يُقاطعني أبو أدهم”بس بتعرف.. كمان حمام البيت حلو كتير.. خاصة وقت تكون قريب من عيلتك”.
بعد دردشة صغيرة، عرفتُ أن أبو أدهم يقطن في إحدى القرى القلمونية البعيدة عن دمشق، ويضطرّ أن ينام يومياً في الحمام، ويعود في نهاية الاسبوع إلى منزله لمدة يوم أو ييومين، ثم يعاود الانطلاق نحو دمشق لمتابعة عمله.
يقول لي “حمام السوق جميل وممتع، لكن حمام المنزل فيه حنيّة العائلة، حتى لو كان بمياه باردة وضعيفة وبالعتمة”..
ابتسمت، وسلّمت على مدير الحمام الصديق بسام كبب، وانطلقتُ إلى منزلي وأنا أقول “الحمد لله رغم كل شيء” لقربي من عائلتي، متناسياً كل مشاكل الكهرباء والماء والعتمة وضخّ المياه.