استهلت الشاعرة بخطاب تتجه فيه الى المستبدّ(أيها المستبد).
يعرّف لسان العرب “الاستبداد”:استبد بفلان اي انفرد به دون غيره”
اما المعجم المنجد في اللغة العربية المعاصرة فيعرّف كلمة “استبدّ”:”حكم بامره,تصرّف بصورة مطلقة غير قابل الاعتراض”.
كيف تتعامل مع المستبد؟
تتغذّى الشخصية المستبدة والمتسلطةعلى السلبية لذا عليك التعامل مع المستبد بطرق ايجابية ولا يعني ذلك ان تسمح له بفعل ما يشاء بل اطلب منه ان يحترم حدودك ولا يتجاوزها باسلوب ايجابي.(1)
اما عن الاستبداد في الحب فيقول المفكر خالص جلبي:”ان ثمة استبدادا من نوع آخر نمارسه في حياتنا المعاصرة كثيرا ما يهدد اي علاقة بين رجل وامراة وهو استبداد الحب…باسم الحب نخنق بعضنا بعضا ونكتم انفاس بعض ونضيق الواسع ونخسف الضيق وباسمه نطارد” المحبوب”
فنحسب عليه أنفاسه ونرصد حركة حدقات عينيه ونتعقب ما يخطه قلمه”(2)
ويتناص معنى الاستبداد في الحب لدى الشاعرة مع عنوان لمؤلف محمد طلعت المصري تحت عنوان”الاستبداد في الحبّ”.
وفي هذا الاطار هل ان الحبيبة ستكون راضية باستبداد الحبيب
تقول الشاعرة:أيها المستبد
بحناناي…
القابع في كل أركان
قلبي…
يبدو ان هذه الحبيبة راضية باستبداده فهي منحته كل حنانها وجعلته يحتل كل أركان قلبها .ولعل تلك الفجوات النصية(الثلاث نقاط …) تمنح القارئ حق التأويل فقد يعتبر أن الاستبداد بالحب ليس احتلالا لحنانها وقلبها فقط بل هو احتلال لكل جوارحها وعقلها وروحها وحتى “جسدها”.
انها الحبيبة التي لا تتنفس أمام الحبيب وهي ملك له.أن يحكم بأمره .
يقول نزار قباني الذي جعله استبداده بالحب يحسد حتى الاشياء التي تقترب من الحبيبة:
كم أحسد تلك الاشياء التي
تملك حق رؤيتك والاقتراب منك
بينما لا أملك انا هنا سوى
حق الاشتياق اليك.
ان الشاعرة تخاطب حبيبها المستبد فهل يمكن ان تكون الحبيبة ايضا مستبدة في حبها؟
من وجهة نظر حقوقية وانصافا للمرأة فان الحبيبة يمكن أن تكون مستبدة في حبها ولنا في ذلك ماقاله عمر ابن أبي ربيعة في هند:
ليت هندا أنجزتنا ما تعدْ //وشفت أنفسنا مما تجدْ
واستبدّت مرّة واحدة //انما العاجز من لا يستبد
كلما قلت متى ميعادنا//ضحكت هند وقالت بعد غد
كذلك يتناص معنى الاستبداد في الحب بالنص القرآني فامرأة عزيز مصر قد استبدت في حبها للنبيّ يوسف :
سورة يوسف الاية :30 “قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبّا انّا لنراها في ضلال مبين”.
الاية 32:”قالت ذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم
ولئن لم يفعل ما آمره به ليسجننّ وليكونا من الصاغرين”
ان هذا الحب المستبد لدى الشاعرة هو مزدوج بين الحبيبين فكلاهما فاعل وكلاهما مفعول به.
انه حصار ومحاصرة بينهما فهي لا تتنفس الا عطره .تقول الشاعرة:
وشوشات عطرك
تحاصرني..
ان كلمة “وشوشات” هي جمع مؤنث سالم لوشوشة .ووشوشة هو اسم لنوع عطر مطبوع للنساء والرجال.
وعطر وشوشة الاصلي هو عطر شرقي للجنسين يدوم طويلا وهو عطر الازهار الشرقي ومثالي لمحبي العطور ويبرزعطر وشوشة عبيرا ورائحة تخوض غمار المواجهة لتوقظ الذاكرة وتأسر الحواس.
وبالتالي فان عطروشوشة قد يأسر كل حواس الحبيبة ويستبد بها .
ان الشاعرة تشبه محاصرة وشوشات عطره برفيف فراشة تعلمت حريق النور
ووجه الشبه بين المحاصرة وحريق النورأن كل من الحبيبة والفراشة تستمتع بالمصير الذي ينتظرها فالفراشة من أجل ذاك النور تتحمّل الحريق والحبيبة من أجل حبّ يغمرها ويستبدّ بكل جوارحها فهي تستمتع بحصاره بما فيه من خنق واختناق لها .تقول الشاعرة:
وشوشات عطرك
تحاصرني..
كرفيف فراشة تعلمت
حريق النور
وأدمنت رقصة النار
انها مفارقة بين الحريق والنور وبين الرقصة والنار:
لعل القارئ يذكرنا بالآية 10 من سورة البروج”ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق”وعذاب الحريق هو من المسمّيات لعذاب جهنم.
اما النور فالله خصّ”النور”بسورة كاملة “سورة النور”الآية35 (مثل نوره ك..)
والنور له معاني عديدة منها العلم والهداية…
انها مفارقة ايضا بين الرقصة والنار بين الرقصة التي هي متعة وانتعاش وبالتالي حياة والنار التي هي رمز الفناء والموت.
ولعل هذا ما يبرّر اختيارالشاعرة كعنوان لقصيدتها”حريق النور”لانها تجد في حبه المستبد انها ملك له واحتواؤه لها يشعرها بالسكينة والامن من الحريق والنار.
انه حريق تكتوي بحبه وهو في نفس الوقت النور الذي ينير طريقها لتسكن اليه.
وهذا المعنى يتناص مع الآية 189من سورة الاعراف”هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها”
ان الشاعرة تضرب للقارئ مثل الفراشة لتقنعه بهذه المفارقة . فالحبيبة لا تبالي بالخطرتماما كالفراشة فهي تجاريها في تعلمها حريق النور وادمانها رقصة النار ان الحبيبة تحترق بنار حبّه حتى تستحيل رمادا لاحياة فيه .
ان ثنائية الفراشة والنار التي تتحدّث عنها الشاعرة الهام عيسى تتناص مع عنوان القصة القصيرة”الفراشة والنار” للكاتب محمد عاشور(3).
لقد كانت الفراشة رمزا للجهل والطيش يضرب بها المثل”أطيش من فراشة”
وربط الفراشة بالنار ربط سوء وتشهير بالفراشة وذم وهجاء بالطيش والجهل والتهوّر فيقول أحد الشعراء في ذلك (في ثمار القلوب للثعالبي):
كأن بني طهية رهط سلمى// فراش حول نار مصطلينا.
يطفن بحرّها ويقعن فيها// ولا يدرين ماذا يتقينا.
ويقول شاعر آخر:اذا ما دنا حتْفُ الفراشة أقبلتْ//الى وهجان النار تطلبُ مخلصا
وينسب للنبي حديث يؤكد المعنى الشائع”انكم تتهافتون الى النار تهافت الفراش وانا آخذ بحجركم”(اليوسي ,زهر الاكم).
وحتى في النص القرآني ذكر الفراش في سياق الذمّ فالناس يوم القيامة يكونون فراشا مبثوثا”يوم يكون الناس كالفراش المبثوث”(القارعة الاية4) أي في حال من الخوف والفوضى.
بيد ان شعر الحب أحدث نقلة جدية بخصوص الفراشة كرمز فالمحبوب يتبدّى نارا والمحب فراشة ترمي نفسها في هذه النار عن طواعية وبالتالي فرمي النفس في النار ليس انتحارا بل تضحية باسم الحبّ .
يقول الشاعر محمد بن جعفربن بكر الآمدي:
يستعذبُ القلب منه ما يُعذبُه// ويستلذّ هواه وهو يُعْطبُه
مثل الفراشة تدني جسما أبدا//الى ذبالة مصباح فتلهبُهُ.(العماد الاصبهاني,خريدة العصر).
ان الفراشة تضحي بنفسها من أجل النور او من أجل الحبّ..انها بشكل ما حارسة للنار و بذلك تحوّل الطيش الى نوع من العبادة حتى ان جلال الدين الرومي المتصوّف ارتقى بالفراشة الى مرتبة رمز كوني وجعلها استعارة للعشق الالاهي المطلق.(4)
ان الشاعرة الهام عيسى تعتبر العشق احتراقا والحب احتراقا وان لم يحرق الحب فهو ليس حبّا والفراشة هي المحب الاعظم لانها المحترق المكتمل الاعظم .
بيد ان الشاعرة تفاجئنا بقفلة لم نكن لنتوقعها بعد أن جعلت الحبيبة لا تبالي بالاحتراق لتصبح رمادا .
وكاني بالشاعرة تريد أن تَجْبُر بخاطر هذه الحبيبة المضحّية و المتحدية لتجعل “تحت الرماد اللهيب”هذا اللهيب هو حرارة حب المستبدّ ليجعلها تقوم من جديد وتبعث للحياة.
انه بعث جديد وحياة جديدة.تقول الشاعرة:
كل ليلة أحترق بك
لأستحيل رمادا
وأقوم بك..
ان حياتها في الموت فيه. فهو الموت والحياة (أحترق بك/أقوم بك).انه استبداد في الحب يحييها ولا يخنقها ..انه الحب الذي يأسر كل كيانها .
انه الحبّ المعجزة الذي يميت ويحيي.
ان الشاعرة استخدمت معجمية تشي بالاستبداد بالحب(أيها المستبد بحناناي../القابع في كل أركان قلبي…/تحاصرني..أحترق بك/لأستحيل رمادا/ وأقوم بك…)
ان هذه الفجوات النصية (الثلاث نقاط) تثير فضول القارئ ليمارس حقه في التأويل ليعتبر ان هذا النوع من الحب الذي استبد بحنانها وقبع في كل أركان قلبها
وعقلها وروحها وحاصركل حواسها وجعلها تقبل التضحية حدّ الموت لا يمكن الا أن يكون الحب الروحي.
والحب الروحي هو أقوى وأشرس أنواع الحب وأصعبها وهو ما يسمّى بالعشق.
و”يشمل حب الروح انواع الحب جميعا(حب القلب/العقل /الجسد..) فيأسرعقلك وقلبك وجسدك وتفاصيلك ويصهرها في انسان واحد وهو فخ لمن وقع فيه فلا
خلاص منه ولانهاية ولا ارتواء ولا شبع..لا مقاييس له ولا أسباب..لا يعترف بالقوانين..انه كالنار التي تأكل كل شيء وتقول هل من مزيد…وهذا الحب لا يفيد فيه عقل ولا منطق ولا يقتله هجر ولا قسوة ولا تضعفه مسافات”(5)
انه الحب الدائم الذي لا يتوقف (كل ليلة أحترق بك/أقوم بك).
ان الشاعرة اختارت الليل لما في الليل من رمزية لدى العاشقين:
“تعتبر رمزية الليل من أكثر الرموز المستخدمة في الشعر العربي قديمه وجديده ومنه يتناولون المعاني العميقة ومنه يأخذون حاجتهم من الصور وهذه الرمزية
اختلف استخدامها من شاعر الى آخر فهناك من هرب من جحيم الضوضاء في النهار الى الليل ليعيش مع نفسه الهدوء والسكون وهناك من اتخذه دلالة للجمال وصفاء الذهن والهيبة..”(6).
ان الشاعرة الهام عيسى هي كل هذاخاصة وهي قد ضربت مثل الفراشة التي تحترق بالنور في الليل.
ان القصيدة لا تخفي على المتلقي مرجعيتها الدينية فمعجميتها في خدمة هذه المعاني الدينية موت وحياة(الحريق /النور/النار/أحترق بك/لأستحيل رمادا/وأقوم بك..)كل هذا يدعم الحب الروحي بما تحتويه الروح من مرجعية دينية في معنى الخلود..انه الحب الخالد الذي تتوق اليه الشاعرة.
الخاتمة: لقد رسمت الشاعرة الهام عيسى مشهد الفراشة التي تعشق حريق النورلتجسيد الحب المستبد الذي يتماهى مع أصعب أنواع الحب وهو الحب الروحي موظفة معجمية دينية جعلته يرتقي الى الحب الخالد حين جعلته يموت ثم يبعث من جديد.
أشدّ على ابدع الشاعرة الهام عيسى وعلى قلمها المتفرد الذي جعلها لا تشبه الا نفسها.