شعر وحكايات

القص الجميل يمتع الناس ، ويطهرالكاتب من آثام كثيرة !

بقلم : سمير الفيل

ليس بمقدوري أن أقدم توصيفا دقيقا وشاملا للقصة القصيرة ، ولا أن أدخلكم جميعا معملي الفني فأكشف بذلك عن أسرار تخصني وحدي حيث أعتبر اللعب الفني عنصرا أساسيا في نصوصي، فقد اكتشفت أن الحياة بجهامتها وعبوسها وتقطيبها يمكننا كبشر تعساء أن نقاومها باللهو والشغب والتمرد.

سأحكي عن تجربتي مع القصة القصيرة فأقول أنني بدأت شاعرا شعبيا حين قدمني الأبنودي في جرن قمح بقرية اسمها كفر البطيخ لألقي أول قصيدتي ، واستمر مشواري الشعري فترة لا بأس بها منذ سنة 1969 وحتى سنة 1974 حين كتبت قصتي الأولى ” في البدء كانت طيبة ” وكانت تعتمد على تضفير البرديات الفرعونية من كتاب العلامة سليم حسن ” مصر القديمة ” مع حدث الحرب ،وحصلت القصة على المركز الأول في مسابقة نظمتها مجلة ” صباح الخير” ثم تلتها قصة ثانية هي ” كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟ ” وحصدت نفس المركز مع صرة نقود مكنتنني من شراء جاكت أحمر ورابطة عنق مطبوع عليها فتىزنجي يصعد شجرة جوز الهند ، وقميص وردي بياقة عريضة ، ومجموعة كتب لمكسيم جوركي وتشيخوف.

الكل من حولي رأى أنني أخطأت طريقي بالذهاب إلى القصة فلها أعلامها ونسقها ، لكنني كنت أتعمد أن أصدم ذائقتهم وتصنيفاتهم الجامدة المستقرة بالدخول لرحاب القصة القصيرة والتجوال عبر فراديسها واللعب في مساحاتها المشغولة بالجمال. مع قصتي الثالثة ” الخوذة والعصا” بكيت بدموع حقيقية مع دفن المحارب في بطن التبة ، وهو مالم يحدث في الشعر ووجدتني متوحدا ببطلي الذي يهبط في حفرة .

ولما كان أبي الأسطى مصطفى الفيل قد مات شابا ، وأنا أخطو في عامي الثاني فقد وجدت في كتابة النص القصصي نوعا من دحض الفناء ومقاومة الهلاك الأبدي . هكذا وجدتني أكتب سلسلة نصوص قصصية تعبر عن نفس الفكرة ، ولما أحببت ” سعادا” ، وكانت جارة لنا تذاكر في السطح وتشرح لي عبر الألواح الخشبية المتراصة بين السطحين مادة الجبر وأشرح لها بدوري مادة الجغرافيا وجدتني أكتب قصة قصيرة تقول لها بوضوح أنني أحب البحر وزهور التمرحنة وعينيها. السرد أنقذني من غواية الشعر حيث يبدو صخب الإيقاع وقوة المخيلة . في السرد مادة واقعية لا تندحر وهو ما وجدته يبرق في عيني سعاد.

في السرد وبالتحديد في القصة القصيرة آلاف الاحتمالات لتحكي وتقص ما يعن لك، يمكنك أن تحذف وتضيف، تقدم وتؤخر ، تسهب و تختصر، وفي كل الأحوال هناك زمان ومكان وشخصيات تتحرك.

أمكنني في فترة البدايات أن أفتش عن أشكال جديدة أخرج بها عن النمط فكتبت ” الساتر” وأرسلتها لإبراهيم عبدالمجيد كي تنشر في ” الثقافة الجديدة” ، فحملها بنفسه بعد أن أعجب بها وأعطاها الدكتور عبدالقادر القط لتنشر في العدد الثاني من ” إبداع” .

كنت فخورا أن تأتي قصتي تالية لقصة ليوسف أدريس وذلك في فبراير ، 1983وكان أدريس يعني لي الفارس الأول للقصة القصيرة ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي حسب تصوري ولما قابلته مرة في معرض الكتاب قدمت له مجموعة قصصية مشتركة لأدباء شباب من مدينتي ـ كنت واحدا منهم ـ فطوى المجلة بعناية ووضعها في جيب جاكتته. إذن أصبحت منتميا لكتيبة القصة القصيرة. لكن حدث بعد ذلك أن كنت اقرأ كتابا في مكتبة قصر ثقافة دمياط ، ولما حان موعد الانصراف وجدت رجلا يشبه في طلته يحيى حقي يجلس في مكتب مدير القصر فاقتربت منه مع صديقي القاص محسن يونس وفوجئنا أنه صاحب ” قنديل أم هاشم” .

30 دقيقة قضيناها مع يحيى حقي ، ونحن نوصله لمحطة سيارات رأس البر. في مشيتنا معه . سألته : ” قول يا أستاذنا . ما الفرق الدقيق بين كتابة القصة القصيرة وبين كتابة الرواية؟”.

كان يسير بيننا وشعره الأبيض يبدو كعلامة على الإجلال والخشوع. تسمرت قدماه للحظة. أمسك بذراعي ، وكأنه يتلو من كتاب مقدس :

” شوف يا بني . أنت أمام باب كبير مغلق. هيا بنا نفتحه . إننا نطل على الشارع والميدان والحارات . الناس تتحرك أمامنا بخطوات مسرعة أو متمهلة. يمكنك أن تحكي كل شيء تراه. حتى لو كان تاريخ هذه المجموعة من البشر كيفما تريد. يمكنك أن تنزل نهرالشارع. ويمكنك أن تستقل قطارا ليعود بك للماضي ، أو يتقدم بك للمستقبل. لكن إياك أن تقول ما هو زائد عن الحد . وعليك أن تعاود إغلاق الباب بعد أن تنهي عملك!”

ـ ” طيب يا أستاذنا . وماذا عن القصة القصيرة ” ؟

ضحك ضحكته المفعمة بالرقة ، وهمس بصوت خفيض:

” إذن تعال . أنظر من ثقب المفتاح. ستقع عينك على دائرة . دائرة محدودة تكشف عن منظر بعينه لا امتداد له. هذه هي فكرة القصة القصيرة. لا يمكنك أن تفتح الباب كله، كما لا يمكنك أن ترى إلا ما هو عياني ، يمكنك أن تتخيل ما وراء المشهد بحساب “.

كان هذا هو الدرس البسيط والعميق الذي درسته على يد كاتب جليل ، له فضل كبير على جيل كامل من الكتاب ، وسأعود لتجربتي لأقول أن مجموعة النصوص التالية التي ظللت أنشرها عبر طابع البريد في” إبداع” قد فتحت أمامي المجال لأسجل اسمي كسارد في بداية مشواره الأدبي ، واحتفظ بالعرفان للدكتور القط الذي نشر لي إحدى عشرة قصة قبل أن ألتقيه لأول مرة في مطار القاهرة الجوي منتظرين ركوب الطائرة للمشاركة في مؤتمر دولي عن العقاد بأسوان سنة 1990 . امسك الدكتور القط بيدي وعرفني على صديقه الدكتور محمد مصطفى الشكعة : ” هذا كاتب جميل من كتاب إبداع “.

وأدركت أن الرجل يقدم لي تحية رائعة عن نصوص نشرتها في مجلته ، كانت محل شك وقلقلة داخلي ، ولكنني تعلمت من هؤلاء الكبار فضيلة التواضع.

في بداية تعرفي على شبكة الأنترنت نشرت 21 قصة هي مجموع نصوص ” شمال.. يمين” وفوجئت بتجاوب رائع من المتلقين ، وحدث أن صنف بعض النقاد النصوص كرواية إلا أن فكرة الباب وثقب المفتاح ظلا دليل عمل وبرهان صدق فانحزت لتصنيفها كنصوص قصصية.

ماتت ابنة خالتي وبعد عودتي من الجنازة أمسكت القلم وكتبت ” مشيرة ” وكانت بداية مختلفة إذ أنني كتبت بكل عفوية وبدون أن اشطب حرفا واحدا. وتأكدت ثانية أن في الفن منطقة سحرية غامضة ، ليست هي العقل فقط ، ولا هي الوجدان بمفرده بل تخص العنصرين وأشياء أخرى عديدة .

بعد “مشيرة ” عدت بالذاكرة لفترة عملي صبيا في محل أحذية فكتبت مجموعة ” صندل أحمر” ، ولامست فيها مناطق البراءة في الحياة. كيف لنا أن نفهم الدنيا ، ونعيشها رغم أوجاعها. الولد فلفل بطل النصوص يعيد اكتشاف الأشياء ومنها ما هو علاقات محرمة ومنها ما هو فوق التوقع ، بنوع من القدرية والإشراق والوعي.

الوعي عنصر مهم جدا في قيمة مايكتب القاص : وعيه السياسي ، ومصداقيته الفنية ، وإدراكه لمنظومة العلاقات الإنسانية.

القصة القصيرة وعبر تجربتي في كتابتها منذ سنة 1974 وحتى الآن ( فبراير 2009) هي فن نبيل يحتاج لكاتب من طراز فريد. كاتب يهتم بالحياة ، وعليه أن يلم بتفصيلاتها ومنمنماتها الدقيقة لأنها هي ذاتها التي يرتكز عليها الحدث . كاتب يمكنه أن يرصدها في عنفوانها ، ولديه ما يقوله ، وفي القلب من ذلك موقفه المبدئي من العالم والحياة والكون والرب وذاته . قلت مرة أن القصة القصيرة فيها تركيز وتكثيف ، وفيها مساحة للحدس ، ومنطقة للمناورات حيث التقدم المحسوب والتقهقر المنظم حالة احساس الكاتب بأهمية ذلك.

وأضيف هنا أن فن القصة القصيرة يعتمد على صدق الحكي ، وقوة العاطفة ، وامتلاك القاص للغة حية ، منسابة ، حاملة لنسغ الحياة ، لا معاظلة فيها. كما أن لدى الكاتب فضاءات لا محدودة للتجريب بحيث لا يكون في كتابته شطط أونزق أو افتعال .

اعتبر نفسي كاتبا كلاسيكيا بنفس سردي تجديدي ، وما يهمني شخصيا هو أن أظل محافظا على عمود الحكي ، وعلى منطلقات شعبية مرقشة وجدتها في ” ألف ليلة ” وفي فن ” المقامة ” وعبر ” الموال ” وبنسب أعلى في الحياة الشعبية التي انتمي لعالمها سكنا ومعيشة ، وهذا بالطبع لا يمنعني من حب فوكنر وكامي وسارتر ، نيقوس كازنتزاكي وهيمنجواي وديستوفيسكي ، نجيب محفوظ ومالك حداد وعبدالعزيز مشري ، الطيب صالح وبهاء طاهر وابراهيم أصلان ، هدى بركات وإبراهيم الكوني وعبدالرحمن منيف .

لا يبدأ الكاتب من فراغ، ولا من نقطة الصفر ، لكن عليه أن يستوعب التجارب السابقة ثم يجترح لنفسه أفقا جديدا.في التكرار مقتل النص وفشل الكاتب . وأضيف ثمة كتابة لها حرارة التجربة ودفء الإنسانية ، وفي المقابل هناك كتابات تولد ميتة ، ولا أعرف السر حتى اللحظة في ذلك ؟!

كتبت عني الدكتورة وجدان الصائغ وهي أكاديمية عراقية أفضل دراسة عن رواية ” ظل الحجرة ” ، وكتبت عني الناقدة السورية شهلا العجيلي منذ أيام حول مجموعتي ” صندل احمر” فلامست قلب التجربة بمقدرة وعمق حقيقيين ، وكتب الدكتور صلاح السروي والدكتور محمد عبدالحليم غنيم وابراهيم جاد الله عن” شمال.. يمين” كما كتب الدكتور شريف الجيار وسيد الوكيل واحمد أبوالعلا عن ” مكابدات الطفولة والصبا” . في كل دراسة كنت أجد الناقد يطرق منطقة مختلفة لم تخطر لي على بال. سألت نفسي عن دلالة ذلك فكان الجواب الذي توصلت إليه أن فن القصة القصيرة يملك من الثراء والتعدد والتنوع ما يدعم نظرية الاحتمالات في الفن, فلا توجد رؤية وحيدة بل رؤى متقاطعة ومتداخلة شأن الحياة ذاتها .

أريد في هذه الشهادة التي أكتبها خصيصا بمناسبة يوم القصة القصيرة أن أبسط تجربتي الأخيرة في نصوص قصيرة جدا كتبتها على هيئة مروحة سردية ، ونشرت في أغلب الصحف العربية والمصرية ومنها نصوص ” حكايات السرير” ، ” مخابيء” ، “رأس البر” ، ” هواء بحري” ، “قبلات مميتة ” ،” غائبون ” ، ” مناخوليا” . إنني أبحث عبر هذه النصوص عن إمكانية تعدد زوايا الرؤية للعنصر الواحد فالمكان هنا يصبح البطل مرة ، و” الشخصية” الثرية بتحولاتها هي المرتكز مرة ثانية. ” المخابيء ” مثلا يمكن أن تصبح لها اليد الطولى ثم أتمعن فيما يحيط بالحياة من ” ارتباكات ” فأضمنها حكيي .أقصد أنني أحاول البحث عن التعدد في ” اللقطة ” الواحدة كأننا إزاء مرايا متواجهة تقدم عددا لا نهائي للفعل الإنساني ، وعلى كاتب القصة القصيرة أن يتخير اللقطات التي تفيد اختياراته التقنية وتشريحه الجمالي.

أعتبر القصة القصيرة حالة من المتعة لا نظير لها ورغم مروري بكل حالات الكتابة وأجناسها الأدبية من شعر ورواية ومسرح ونقد فما زال للقصة القصيرة عندي مكانة خاصة . ذلك أنها فن جميل وصعب وممتع في آن. فن يشتغل على الإنساني ويدخل الذات فيهزها هزا ويحكي عن المكابدات التي نمر بها فلا تغادر ذاكرتنا أبدا.

لما انتهيت من كتابة قصة ” نرجس” خرجت إلى الصالة أنتحب ، وكان البيت خاليا من إلا مني ، رحت أنهنه بصوت مسموع ، وكأن السرد كشف ضعفي لكنه في نفس الوقت طهرني من آثامي الكثيرة وأعاد الكبرياء لروحي المثقلة بعذابات لا حد لها !

سميرالفيل

14/2/2009

كتبت هذه الشهادة في يوم القصة القصيرة

اقرأ المزيد شهادة الناقدة حنان شومان: إسلام إبراهيم ممثل بيأكل الشاشة بفضل موهبته الفذة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock