شعر وحكاياتعام

المرأة الشيطان والأعرج


 المرأة الشيطان والأعرج

اللوحة الأولى 

الدكتور حمد حاجي/تونس

تنفتح (مكتبة الكتاب) كالنافذة على شارع الحبيب بورقيبة.. يقف المارة أمام واجهتها متصفحين.. لمحتُها.. بعقد الخمسين، بدت لي قِبلة أعين المارة، شيء ما بملامحها يذكر بالأسطورة الإغريقية.. سحر كان أقوى من أن يقاوم.. ربما سحر عينيها، كحل اهدابها، ربما ابتسامتها، أم ترى تلك الجذوة المتقدة بأعماقها..أم حركة يديها على عكازها ؟
نظرتها جذبتني كما بوصلة تشد سهمها إلى جبال الشمال والنحاس..
و بفضول اقتربت من الجانب الآخر من العكازة.. وبلهفة، سألتني عن عنوان رواية .. وسرعان ما دلفنا المكتبة ..سألت الكتبيَّ عن رواية (الشيطان امرأة) .. فمدَّ لـكل منَّا كتابا قرأت على الغلاف: “الشيطان امرأة” تأليف هاندى أتايلى.. فيما كان عنوان الرواية التي مسكتها المرأة “الشيطان امرأة” تأليف (اجاثا كريستى)..
مدَّت لي( كارت) عليه الرمز السري لبطاقته ، دفعت الحساب ببطاقة الفيزا ومتأخرا أعاد لي البائع بالخطأ بطاقة المرأة العرجاء.. 
وحين حاولت البحث عنها كانت خرجت ببطاقتي وغابت بالزحام، ولم أفعل شيئا لأصلح الموقف أولا لأنني أمر بمرحلة كراهية الاجراءات الإدارية.. وثانيا لأن بطاقتي مفلسة.. 
وأكثر لأنني متحمس لاستخدام بطاقتها بالسوبرماركت بنفس السخاء والرفاةة مادام الرقم السري معي على الكارت.. 
وقبل أن أعرَّج إلى مكان قد تراني فيه المرأة، جذبت البطاقة والرمز السري أتفحصهما وكم خامرتني فكرة شراء ربطة عنق ربيعية.. رجالية.. وتراءى لي طيف صاحبة البطاقة العرجاء.. تتلقى كشفها المعتاد بنفقات بطاقة الفيزا وتكتشف مشتريات رجالية.. 
وخمنت بمجرد مراجعتها لتواريخ الشراء ستعرف المحلات ويمكنها ان تتتبعني عدليا
فعدلت وفكرت بشراء زوج جوارب او حذاء..
ومن الحين قررت أن أتوجه الى أحد (المولات) .. البعيدة كي لا أثير الشكوك..
=======
اللوحة الثانيةا
=======
وأنا وإبليس بالعربة..؟!
ركبتُ السيارة.. في البداية كانت تنهيدة راحة ورفاة أنني سأتبضع اليوم جيدا.. 
وبمجرد ما أدرت المفتاح، بدأت في النقاش مع شخص متخيل يجلس بالمقعد المجاور..
وسرعان ما ظهرت لي المرأة الشيطان تمد العكازة وتسوي ساقيها جانبي بالكرسي الأمامي.. وارتبكت كيف سأستطيع التحكم بالمقود والفرامل 
وأتاني صوتها رقيقا حالما:
– من الأفضل أن تهبط من الشارع الرئيسي وان تلف يسارا .. 
وكي أبدي شجاعة قلت: إنه ممنوع ..
وسخرت مني: حتى الٱن لا تعرف الشوارع.. إن أداءك بالسياقة قد تراجع..
واستحوذ علي مزاج شجار غير معتاد .. كيف ساقضي رحلتي متشاجرا مع أناس متخيلين أما يكفيني شجاري مع أمي ..! 
فيما كنت اسوق السيارة، ابدلت معها الموضوع معرجا على عاداتها الشرائية..واكتشفت تطلعها دائما لقراءة الروايات الخيالية وارتيادها لدور الثقافة وصالات الأوبرا والمطاعم الفاخرة.. 
وزاد شعوري بالإهانة أنها ستستعمل بطاقتي الفيزا.. لو اعتبرنا أن كل ما تشتريه سأدفعه أنا.. لكن اطمأننت أن بطاقتي قد تفقد صلاحيتها في أيام.. 
بعد ساعات من النقاش، وبعد الضجر من اللف في مرآب السيارات للعثور على موقف خال أركن به السيارة دخلتُ إلى الساحة المخصصة للمعوقين..
وفيما كنت أفك حزام الامان غابت المرأة الشيطان من الكرسي.. و انتبهت إلى حارس المرآب يراقب حركاتي ..
خرجت من السيارة وتصنعت العرج وعبرت أمامه أتوكأ على ساقي اليمنى..وبين الحين والآخر كنت ألتفت إليه لأتثبت من موقفه المرتاب..
ولما وصلت باب (المول) عرفت أنه يستعد لمتابعتي ..وعندها لم أجد بدَّا من مواصلة التصنع بالعرج..
دلفت من الممر المخصص للمعوقين وذوي الحاجات الخاصة..
شعرت ما يشبه الشد العضلي وبدأت ساقي ترجف وأنهكني ألم وحشيٌّ .. اذَّاك انتبهت أني اخترت العرجة الأكثر ألما وانهاكا..
وبجناح الأحذية، وقفت أستريح.. وعند قياس الفردة الأولى أبدلتُ العرجة من ساق الى اخرى .. ثم واصلت السير وقد كنت منهكا أكثر.. نظرت حولي لم أر الحارس وهكذا بدأت أمشي سويا بشكل طبيعي.. متحذرا أن يلمحني.. فلربما أحتاج استعادة العرج ثانية.. لكن شعورا بتلك اللحظة داهمني .. فعيب عليَّ .. بل حرام .. ربما أخذت موقف رجل معاق بالفعل يظل يلف يلف دون العثور على موقع لركن سيارته.. شعرت بتأنيب ضمير وبالتالي من جديد بدأت أعرج..
اتخذت عرجة أكثر أناقة حتى وصلت إلى جناح بيع العكاكيز.. اخترت واحدة في مقبضها رأس امرأة.. وما إن خرجت من ناحية بيع العصي حتى رأيت الحارس .. لكن هذه المرة يبدو لي ظهره فقط.. فسعيت إليه وتقدمت بغاية أن يلمحني أمشي وأعرج ، واتوكأ على عكازة.. 
وكان لي أن قضيت على ارتيابه مرة واحدة.. مددت له بطاقة الفيزا ورقمها السري .. تولى الدفوعات مع البائعة..ثم رجع يساعدني في دفع عربة المشتريات الى المرآب..
=====
اللوحة الثالثة 
=======
صادف أن هاتفتني والدتي بعد أيام لحضور زفاف أحد أقاربها..ولا أخفي شيئا إن قلتُ كان يؤلمني السير باستقامة..فمنذ بدات اعرج ذهبت آلام ظهري، وصرت حميميا مع زوجتي أكثر.. ونسهر بالسرير طويلا..وتوقف أرقي..وذهبت كآبتي..
ومن فرح بالحذاء الجديد والعكاز واعتيادي المشي على العرج ، قررت أن أزور أمي مترجلا متوكّئا على عصاي..
حالما رأتني، سمعتها تتحدث إلى والدي..
– أعتقد ان مسَّا شيطانيا أصابه ثانية..يا إلهي المرأة الشيطان مرّةً أخرى..!
– قولي له.. الحقيقة..! أجاب أبي..
ظللت ألحُّ على والدي ..حتى ركنت أمي وبادرتني ..
– حينما كنت بعمر السادسة ظهر لك شيطان على هيئة صبية.. 
قائلا: ان لم تعرج مرَّة كل اسبوع سيموت أبوك..
ولم تكن مستعدا أن تتألم لفقد والدك .. لذلك كنت تعود من المدرسة وأنت تتصنع عرجا..
وكم تحملت من أصدقائك نظرات الاحتقار وكل النعوت النابية.. 
تذكَّرت كيف كنت بكل مرَّة أتذرع لأصدقائي، فمرَّة أقول لهم أن الحذاء يؤذي قدمي 
ومرَّة أن كاحلي التوى في حصة الرياضة ..
ومرة أنني قصصت أظفرا أكثر من اللازم وهو ما يؤلمني..
أردف أبي:
– لكنك لم تكن قادرا على البوح بأن شيطانا ما أوحى لك!
وبالرغم من اعتراف والديَّ ومع قساوة هذه الحقيقة، لم أستطع أن أبوح بسرِّ بطاقة الفيزا لهما.. ولا حتى التوقف عن العرج..
بالمساء، استحثثت والدي للذهاب لزفاف قريبتنا.. لكن أمي طلبت مني أن لا أعرج أمام المدعويين..
واضطررت لأتصنع بأني لا أعرج أصلا..أثناء الحفلة..
السيء بالأمر أن من المدعويين حارس المرآب، الذي تقدم مني عابسا
– أنا أعرج -قلت له- لكن عائلتي بمثل هذه الاجتماعات العائلية تجبرني على الاستقامة..
والأسوأ، حين نزل العروسان للرقص .. لمحتُ المرأة صاحبة بطاقة الفيزا تتقدم نحوي..
تسألني : هل أكملت قراءة الرواية (المرأة الشيطان)
في هذه المرة.. كانت لا تعرج حقا..!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock