يذكر أن أول اختلاف جوهري وقع بين الصحابة كان حول شخصية من يخلف رسول الله في إدارة شؤون المسلمين، فاجتمع الأنصار في ثقيفة بني ساعدة ورشحوا سعد بن عبادة الخزرجي، واجتمع المهاجرون حول أبي بكر، فيما عرض أبو بكر الأمر على عمر وأبي عبيدة فرفضا، واعتزل علي وطلحة والزبير في بيت فاطمة، إلى أن استقروا على أبي بكر بعد أخذ ورد ومناقشات طويلة.. وقد مرت هذه الواقعة بسلام.
هذا إلى جانب اختلافهم حول تجهيز الجسد الشريف وبالتحديد في كيفية تغسيله وهل يجرد من ملابسه الشريفة أم لا؟! حتى جاءهم الإلهام يسمعون صوتا ولا يرون أحدا بأن يغسلوه في ثوبه، واختلافهم كذلك في كيفية صلاة الجنازة عليه ومن يؤم الناس فيها حتى ألهموا بالصلاة عليه فرادى بغير إمام على دفعات متفرقة وهو في مكانه، واختلافهم أيضا حول مكان دفنه هل هو مسقط رأسه بمكة وكان ذلك هو رأي المهاجرين وقال بعضهم بل في حجر إسماعيل من الكعبة أم المدينة المنورة دار هجرته ونصرته
وكان ذلك هو رأي الأنصار أم الشام بجوار أبيه إبراهيم فذكر لهم أبو بكر حديث: “الأنبياء يدفنون حيث يقبضون.” فاتفقوا على دفنه في مكانه بحجرة عائشة، واختلفوا أيضا هل يكون قبره الشريف بصورة اللحد أم الشق وأرسلوا إلى رجلين أحدهما يلحد والآخر يشق فكان الذي جاء أولا هو الذي يلحد فكأن الله اختار لنبيه اللحد.
وقد وقع خلاف بين السيدة فاطمة الزهراء وبين سيدنا أبي بكر الصديق حول أرض فدك التي تركها النبي _صلى الله عليه وسلم_ بعد موته وكانت فاطمة تريد أن ترث أباها وأن تأخذ نصيبها من الميراث في هذه الأرض لكن أبا بكر أخبرها بحديث: “نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.”
ووقع خلاف بينه وبين عمر في قتال مانعي الزكاة؛ فعمر يتحرّج من قتالهم وقد شهدوا الشهادتين، لكن أبابكر أثبت أنه رجل دولة، والدولة تتطلب الحزم والعزم في فرض هيبة الدولة واحترام القانون حتى لا يطمع بها الطامعون فقال: “والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة،
ولو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه.” واختلفوا أيضا في مسألة جمع القرآن؛ فكان أبوبكر يتحرج أم يقدم على شيء لم يفعله رسول الله، ولكن عمر بين له الحاجة إلى هذا الأمر خاصة بعد مقتل الكثير من حفظة القرآن في قتال المرتدين؛ فنزل أبو بكر على رأيه رغم أنه الخليفة، وتم جمع القرآن بين دفتين لأول مرة في عهده..
لكن كل هذه الأمور _ولله الحمد_ مرّت بصورة ودية وبالاتفاق والإلهام الإلهي بوجه الصواب فيها فلم يحدث نزاع بعدها؛ لأن الصحابة كانوا ينزلون على الحكم الشرعي فلا يحتاجون إلا إلى مجرد بيانه فيسلموا تسليما، مع ما كان بينهم من ثقة، وما كان عندهم من مراعاة لآداب الخلاف والنزول على رأي الجماعة..
أما ما يذكره البعض من اختلافهم في وفاته وعدم تصديق بعضهم بالخبر، فهذا لم يكن من قبيل الاختلاف وإنما كان من قبيل الصدمة التي تعرض لها الصحابة لشدة حبهم لرسول الله وحزنهم على فراقه، فشهر عمر سيفه وقال: من زعم أن محمدا قد مات قطعت عنقه بالسيف،
إنما ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى للقاء ربه وليرجعن فليقطعن أيدي أناس زعموا أنه قد مات! وعثمان تسمر في الأرض ولم ينطق ببنت شفه، إلى أن جاء أبو بكر في ثبات الجبال فقبل رسول الله بين عينيه وقال طبت حيا وميتا يا رسول الله. ثم خرج على الناس خطيبا: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت “وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟! ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين.” فهدأت ثائرتهم.
إلا أن هناك فتنة كبرى أطلت برأسها بمرور الأيام نتعرف على أهم ملامحها في الحلقات القادمة فتابعونا..