عاممقالات

تأملات في وقائع محاكمة صلاح الدين الأيوبي (2)

“صلاح الدين” منتصراً. إحدى لوحات نسخة عام 1877 من كتاب “الحروب الصليبية”، المحتوي على مائة رسم إيضاحي من أعمال الفنان الفرنسي الشهير “جوستاف دوريه” (1832 – 1883) Gustave Doré.

كتب . . د. ياسر منجى  

النبش عن صورة “صلاح الدين”: بين دعوة “زيدان” ووقائع التاريخ.


………………………………………………………………..

“شوف كدة، إنبش قبل سنة 1950، إنبش ع الحاجات دي مش حتلاقيها، مش حتلاقي “صلاح الدين” ده ولا “قطز” ده…”. هكذا، بكل ثقةٍ وهدوء، قرر الدكتور “يوسف زيدان” – في حلقته الإشكالية مع الإعلامي “عمرو أديب” – أن يجعل من الصورة البطولية للقائد “صلاح الدين الأيوبي” محض صورةٍ ذهنية خُلِقَت خَلقاً بعد سنة 1950.


وحين استدرك “عمرو أديب” قائلاً: “دقيقة واحدة كدة قبل ما تكمّل، “صلاح الدين” ده… هو مش “صلاح الدين” ده حقيقة تاريخية”؟! أجاب الدكتور “زيدان” بثقةٍ أكبر، وبلهجةٍ حاسمة: “لأ! كان موجود، بس مش الشكل ده”! وذلك قبل أن يتابع بما يفيد أن هذه الصورة البطولية ما هي إلا صورة مختلَقة من قِبَل مؤسسة الحُكم في مصر خلال الخمسينيات. ثم تابع “زيدان” 


شارحاً كيف أن مؤسسة الحُكم قامت، في سبيل خلق هذه الصورة الذهنية، بتوظيف المخرج الشهير الراحل “يوسف شاهين”، مع مجموعة من كبار الكُتّاب، الذين وصفهم “زيدان” – بنبرة صوتٍ أسيفةٍ – بأنهم (أساتذتنا الكبار).


رابط هذا الجزء من الحلقة:



لن أتوقف هنا عند النقطة التي شغلت الرأي العام خلال الأيام الماضية؛ حين وصف “زيدان” “صلاح الدين” بأنه: “واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ”، على حد قولِه؛ فتلك مسألةٌ في ظني يكون حلُّها بإعمال العقل النقدي في مصادر التاريخ، وإخضاعها لآليات المقارنة والترجيح، ورؤيتها في ضوء شروط زمنها، وعدم الاكتفاء بتَلَقُّف المزاعم والآراء من الأفواه، أيّاً كانت صفة من يُطلِق هذه المزاعم والآراء، وكذا بعدم الاكتفاء بالتلقّي السلبي والنقل الجزافي عن منتديات النت وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي. 


وفي هذا السياق، فإن حديثي هنا ينصَبُّ تحديداً على ما ورد على لسان الدكتور “زيدان” في الحلقة المذكورة؛ مِن أن صورة “صلاح الدين” البطولية المشرقة لا توجد قبل عام 1950، حتى لو نبشنا عنها! والإيحاء بأنها من صُنع الكُتّاب والسينمائيين بإيعازٍ من مؤسسة الحُكم المصرية في الخمسينيات.


ويكفي كي أُدَلِّل على عِظَم هذا الخطأ التاريخي أن أسوق أمثلةً متنوعة، ما بين تاريخية وفنية وأدبية، يعود أغلبُها لقرونٍ خلَت – بل إن بعضها أوفى على تسعمائة عامٍ – تقطع كلها بما كان لـ”صلاح الدين” من مكانةٍ مرموقة في الوعي العام، وتؤكد حضورَه بصفة الفارس والقائد الاستثنائي النبيل، لا بين صفوف المسلمين فحَسب، ولا في نطاق المشرق العربي فقط، بل وفي المِخيال الجَمعي الغربي، وبين صفوف النُخبة قبل العامة في دولٍ غربيةٍ عدة.


أبدأ هنا بمثالٍ تاريخيٍّ رصين، ألهَم لاحقاً أحد مشاهير الفنانين العالميين. ففي عام 1811 – أي قبل إنتاج فيلم “الناصر صلاح الدين” بمائةٍ واثنين وخمسين عاماً! – نشر المؤرخ الفرنسي “جوزيف فرانسوا ميشو” (1767 – 1839) Joseph Francois Michaud المجلد الأول من كتابه المعروف “تاريخ الحروب الصليبية” Histoire des Croisades، والذي ظل يعمل على استكمال مادتِه لما يزيد على عشرين عاماً، لدرجة أنه سافر خصيصاً إلى سوريا ومصر خلال عامَي 1830 و1831، ليعاين على الطبيعة مواقع الأحداث الأصلية.


في الجزء الثاني من الكتاب المذكور، يصف “ميشو” معالم شخصية “صلاح الدين”، متحدثاً عن مدى انضباطِه ومكانتِه المحترمة وحِنكَتِه بعبارةٍ نَصُّها: “صلاح الدين، الأكثر احتراماً بين ذَويه، والقائد لجيشٍ منظمٍ، كثيراً ما استغل التشوُّش والارتباك في صفوف جنود المسيحيين، لقتالهم من موقع الأفضلية منتزعاً النصر”. 


Saladin, plus respecté des siens, commandait une année disciplinée, et profitait souvent du désordre et de la confusion des chrétiens, pour les combattre avec avantage et leur arracher la, victoire.
وفي فصلٍ سابقٍ، يتحدث فيه “ميشو” عن تاريخ مملكة الفرِنجة في القدس Royaume Franc de Jerusalem 1187-1188، تأتي فقرة فرعية بعنوان: “عام 1187، والشعب المسيحي يغادر القدس” Année [1187] Le peuple chrétien quitte Jérusalem، يصف “ميشو” من خلالِها مدى نُبل “صلاح الدين”، وما أبداه من تعاطف إنساني في أثناء مشهد إجلاء ملكة القدس ووصيفاتها بصحبة أطفالهن، قائلاً بالنَصّ: “وجاءت ملكة القدس، يرافقها كبار البارونات والفرسان؛ احترم صلاح الدين ألمَهم، وتحدث بكلماتٍ بالغة اللُطف. وأعقب هذه الأميرة جمعٌ من عددٍ كبير من النساء يحملن أطفالهن على أذرُعهِنّ، وسُمِع لَهُنّ صراخٌ مُدَوٍّ”.


La reine de Jérusalem, accompagnée des principaux barons et chevaliers, venait ensuite ; Saladin respecta sa douleur, et lui adressa des paroles pleines de bonté. Cette princesse était suivie d’un grand nombre de femmes qui portaient leurs enfants dans leurs bras et qui faisaient entendre des cris déchirants.


وبعد وفاة “ميشو” بحوالي ثمانية وثلاثين عاماً، أي عام 1877، صدرت طبعة أخرى مختصرة من الكتاب زُيِّنت بمائة رسم توضيحي من إبداع قريحة الفنان الفرنسي الشهير “جوستاف دوريه” (1832 – 1883) Gustave Doré. 


وظهر “صلاح الدين” في الكتاب المُصَوَّر مرّتَين؛ إذ صوَّرَه “دوريه” في الأولى فارساً مُظَفَّراً منتشياً بانتصاراتِه على صهوة جوادِه، وظهر في الأخرى ملتحماً بـ”ريتشارد قلب الأسد” في ميدان المعركة، وقد صارا كتلةً واحدةً انصهر فيها جنودُ الفريقين. كان ذلك قبل إنتاج فيلم “الناصر صلاح الدين” بستةٍ وثمانين عاماً، وظهور “أحمد مظهر” و”حمدي غيث” في مشاهد مماثلة، بل وقبل ميلاد “أحمد مظهر” نفسِه بأربعين عاماً كاملةً! 


وقد شهد هذا الكتاب نجاحاً كبيراً، دفع بأشهر دور النشر الغربية لإعادة طباعته عدة مرات، منها طبعة إنجليزية، أصدرتها دار “دوفر” Dover عام 1997.


نعود الآن في التاريخ لأكثر من ثمانية قرون، لنطالع مجموعة من الأدبيات المهمة، التي طالما أشادت ببطولات “صلاح الدين” ومآثِرِه الأخلاقية في عُقر دار الغرب، وهو ما فَصَّلَته بإحاطة وإيجازٍ بليغ البروفيسورة “كارول هيلينبراند”، أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة “إدنبرة”، في دراستها القيمة المُعَنوَنة “تطوُّر أسطورة صلاح الدين في الغرب”


Prof. Carole Hillenbrand: “The Evolution of the Saladin Legend in the West”, 2006.


تحدثنا البروفيسورة “هيلينبراند” في دراستها المذكورة عن النسخة الفرنسية القديمة من كتاب Williamʼs Historia, the Estoire dʼEracles، المؤلَّف في العقود الأولى من القرن الثالث عشر الميلاد، والذي تأتي فيه سيرة “صلاح الدين” بِوصفِه قائداً نبيلاً وشخصية محورية، بل ونموذجاً مُلهِماً للفروسية المسيحية خلال العصور الوسطى. 




كما يمدنا القرن نفسَه – الثالث عشر – بمصدرٍ فريد، تحولت فيه سيرة “صلاح الدين” إلى أسطورة فروسية يتغنى بها شعراء أوربا؛ وهو كتاب Estoires dʼOutremer et de la nais-sance Salehadin. ومن ضمن الأوصاف العديدة التي كرّسَتها هذه الملحمة لشخصية “صلاح الدين” أنه كان “فائق الشجاعة بالغ الحكمة”.




وتصل بعض أدبيات القرن نفسه إلى حد تصوير “صلاح الدين” بِوَصفِه فارساً لأحلام الملكات والنبيلات؛ ومن أشهر هذه الأدبيات Récitsdʼun Ménéstral de Reims، الذي يجعل من “صلاح الدين” بطلاً استطاع غزو قلب “إليانور الأكيتانية” Aliénor d’Aquitaine زوجة ملك فرنسا “لويس السابع” (لويس الفَتِيّ) Louis VII le Jeune، برغم أن هذا الملك وزوجته كانا أكبر من “صلاح الدين” سناً بكثير.




جديرٌ بالذِكر أن هذه الصورة الفروسية والأخلاقية الناصعة لـ”صلاح الدين” لم تقتصر فقط على أدبيات القرن الثالث عشر الميلادي – التي ساقتها “هيلينبراند” – وما تلاها من أدبيات غربية لاحقة، بل أكدها لاحقاً مؤرخون معاصرون؛ من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، المؤرخ البريطاني البروفيسور “جوناثان فيليبس” Jonathan Philips، أستاذ تاريخ الحروب الصليبية بجامعة “رويال هولواي” بلندن، في كتابه القَيّم “الحروب الصليبية ما بين 1095 و1197” The Crusades, 1095-1197، الصادر عام 2002 عن دار “هارلو – لونجمان” Harlow – Longman 

غلاف الجزء الثاني من كتاب “تاريخ الحروب الصليبية” Histoire des Croisades، من تأليف المؤرخ الفرنسي “جوزيف فرانسوا ميشو” (1767 – 1839) Joseph Francois Michaud.




أما عن عيون الأدب العالمي، فيكفي أن أسوق هنا مثالاً واحداً بالغ الدلالة، فضلاً عن كونه أحد أشهر كلاسيكيات الأدب العالمي، 


وهو “الديكاميرون” (العَشريّات) Decameron، أشهر أعمال الشاعر الإيطالي الشهير “جيوفانّي بوكاتشيو” (1313 – 1375) Boccaccio. لقد استحضر “بوكاتشيو” مآثر “صلاح الدين” في عَشرِيّاتِه في موضِعَين مهمين؛ أوّلهما القصة الثالثة من قصص اليوم الأول؛ حيث يصفه بقوله: “الذي بلغت شجاعته حداً لم يقتصر فقط على تأهيله لسلطنة مصر – برغم أصله المتواضع – بل مكّنه كذلك من إحراز انتصارات عدة على ملوك المشارقة والصليبيين”.


 أما الموضع الثاني فيظهر فيه “صلاح الدين” في القصة التاسعة من قصص اليوم العاشر؛ حيث يصفه “بوكاتشيو” بأنه “الأمير الأشجع على الإطلاق، صلاح الدين”. وفي هذه القصة، يتجول “صلاح الدين” مع مجموعة من أصدقائه في إقليم “لومبارديا”، وهم في زي مجموعة من تجار قبرص. ومن فرط شجاعتهم وأخلاقهم الحميدة، يناجي البطل الإنجليزي “توريللو” نفسه قائلاً: “إن الله ليرضى لو أن بلادنا أنجبت رجالاً مهذبين خلوقين، مثل هؤلاء التجار الذين أنجبتهم قبرص”.

“ريتشارد قلب الأسد” يواجه “صلاح الدين” في معركة “أرسوف”. إحدى لوحات نسخة عام 1877 من كتاب “الحروب الصليبية”، المحتوي على مائة رسم إيضاحي من أعمال الفنان الفرنسي الشهير “جوستاف دوريه” (1832 – 1883) Gustave Doré.




أعتقد أننا لسنا بحاجةٍ إلى مزيد إفاضةٍ في إيراد الأمثلة؛ إذ يكفي ما سبق إيرادُه، عدداً وأهميةً، للدلالة على أن الصورة الفروسية الناصعة، التي تمتع بها “صلاح الدين الأيوبي”، والمقترنة بملامح أخلاقية رفيعة المستوى، أقدم بكثيرٍ من التاريخ الذي افترضه الدكتور “يوسف زيدان” في حلقتِه الإشكالية، وأن “صلاح الدين” لم يكن ينتظر مؤسسة الحُكم الناصرية في خمسينيات القرن العشرين، كي تختلق له صورةً مكذوبة، من إفراز قرائح الكُتّاب والمُخرجين.




غير أن الإنصاف يقتضينا ألا نغفل إزجاء الشكر للدكتور “يوسف زيدان”؛ لدعوَتِه إيّانا للنَبش فيما قبل عام 1950، مقرراً بيقينٍ تام: “شوف كدة، إنبش قبل سنة 1950، إنبش ع الحاجات دي مش حتلاقيها، مش حتلاقي “صلاح الدين” ده…”، فشكراً دكتور “زيدان”؛ ها قد نبَشنا.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock