كتب . د. أحمد زكريا
باروخ وأشفور وأدمـــونٌ”ברוך אשפור אדמון”
من الحكايات الشعبية ليهود مصر القرائين؛ (القرن الثانى عشر)
-16-
من الحكايات الشعبية ليهود مصر القرائين؛ (القرن الثانى عشر)
-16-
فى ذلك اليوم لم يكن أحدًا فى القاعة يشكك فى هوية الإخوة الثلاث، كانت نظرة واحدة نحوهم تكفى للتأكد، كما أن أى منهم لم ينكر إخوته، وجميعهم أقرَّ بوصية والدهم الفقير “عبوديا” تحت قسم التوراة، لم يكن هناك أى خلاف سوى فى طريقة تنفيذ الوصية،
فاليهود الربانيون الذين يقفون خلف “باروخ” يقرّون بأنه قد نفّذ الوصية على أكمل وجه وما من شيىء يعيب “باروخ” بعد أن أوفى بوعده لأبواه، أما القرّائون الذين يقفون خلف “أشفور” وأدمون” فيردّون قولة الربانيون؛ “إِنَّ كَانَتْ هَذِهِ هِىَ طَرِيقًةْ تًنْفِيذْ الْوْصِيًّةُ الَّشّرْعِيَّة فَلِمَاذَا تَأَخَّرّتْ طِوَالَ عِشْرُونَ عَامًا؟”.. هكذا تحدث شيخ القرائين-
أما يهود السامرة(1) فالتزموا الصمت التام واقتصر حضورهم على المتابعة والشهادة.
لا أحد يعلم هل كانت الأمور لتصبح أبسط أم أكثر تعقيدًا لو كان اليهود جلسوا بمفردهم فى القاعة فى ذلك اليوم؟..ولكن الجميع يعلم ان اليهود الذين نزلت التوراة فوق رئوسهم عند الصخرة المقدسّة، أبوا فى ذلك اليوم أن يرضوا بحكم يهودى مثلمهم وعرضوا قضيّتهم على أبناء “… …”(2) والأغيار(3)، فكان من بين الحضور علماء الأزهر وجميعهم من شيعة آل بيت نبى العرب(4)، والذين جميعًا أخذوا موقف الربانيين، وحجتهم فى أن الولد يرث أباه فيما ملك آباه سواء من مال أو دين، أما ما لم يملكه الأب فليس له أن يورثه؛ أما قاضى القضاة فقد التزم الحياد والاستماع طوال الجلسة؛ يسئل ويصغى دون أن يصرّح برأيه، والجميع يعلم ان كلماته هى آخر ما سيسمع فى الجلسة؛ لذلك استبشر الجميع بصمته واستماعه؛ كان يمنحهم الأمل والوقت لعرض حجّتهم كاملة.
بالرغم من كل المناصرة التى تلقاها الربانيون من علماء الأزهر إلا أنهم لم يكونوا أقل قلقًا وتوترًا من إخوانهم القرائين؛ إذ كان هناك آخر يستمع وينصت لكل ما يقال فى المجلس، وكان حضوره فى حد ذاته يبعث الرعب فى نفوس الجميع من مسلمين ويهود؛ لم يتحدث الخليفة الحاكم ولكنه اشار بيداه ثلاث مرات نحو حبر الربانيين ينهاه عن مقاطعة القرائيى وهو يعرض حجته، فى المرة الأولى كان الحبر الربانى منفعلًا ومغتاظًا من كلمات شيخ القرائين التى تفتقر للمنطق والحجة ومن فرط ما كان عليه الحبر من غضب لم ينتبه لإشارة الخليفة، فإذا برأس رمح تنخسه فى خاصرته دون ان ترديه وجندى سودانى يقف خلف اليهود يشير له أن ينتبه لإشارة
الخليفة..ويترك المجال للقرائى يتحدث كيفما شاء؛ ثم تكرر الأمر مرّتان من بعد ذلك دون حاجة لنصل الرمح، وفى المرة الثالثة ادرك ناجيد مصر أن خليفة المسلمين قد أخذ جانب القرائين بالفعل!!…
كان يعلم أنها مسئلة وقت قبل أن تعلن خسارة الربانيين؛ ولكنه لم يشأ أن يحبط رفاقه؛ ثم ارتفع أذان الظهر فانقطعت المساجلات وخرج الخليفة للصلاة يتبعه علماء الأزهر وقضاة المسلمين ولما حاول “باروخ” اللحاق به؛ صرفه الحاكم قائلًا:”ليس هذه المرة.. اليوم أنت بين إخوتك!!” وأمر أن تغلق أبواب القاعة على اليهود فلا يغادرها أحدهم حتى يعود!!
(1)يهود السامرة: أحيانًا تقال يهود “السمرة”؛ بالعبرية تنطق “شومرون” والتى تعنى عاصمة مملكة يسرائيل التى يوجد فيها جبل جريزيم، الذى كان يحج له السامريون فى عيد الفصح، كانت طائفة السامرة من أقل الطوائف عددًا بين يهود مصر، إلا أنهم كانوا أشد يهود مصر ثراءًا، نشأت هذه الطائفة فى فلسطين من بعد سقوط مملكة إسرائيل التى انشقت بعد وفاة نبى الله “سليمان” على يد ملك آشور “تلفث فلاسر” عام 738ق.م، والذى أجلى اليهود عن فلسطين إلى بلاد فارس(إيران حاليًا)، فسكن عدد كبير منهم فى مدينة “السامرة” القديمة،
ولقد اشتدت العداوة بين هذه الفرقة و اليهود عندما رفضوا المشاركة فى بناء الهيكل الثانى، إذ كانوا يعتبرون المكان المقدس لليهودية هو جبل “جريزيم” وليس جبل “صهيون” وأورشليم،، وهم لا يحجون إلى القدس، لأن جبل جريزيم يحتل فى قدسيتهم مكان القدس،
وترى السامرة أن اليهود ضلّوا عن طريق اليهودية الصحيح لذا فهم يعيشون فى معزل عنهم ولا يتزاوجون مع بقية اليهود، كما أنهم لا يؤمنون إلا بأسفار موسى الخمسة، ولهم لهجتهم العبرية الخاصة، ولغتهم الكتابية المتميزة التى يدّعون أنهم حافظوا عليها منذ عهد موسى نبى الله عليه السلام.
(2)المقصود هنا نبى الله إسماعيل وأمه هاجر عليهما السلام، إذ يعد اليهود المسلمين هم ذرية إسماعيل من أمه هاجر رضى الله عنها؛ العهد القديم (سفر التكوين؛ الإصحاح الواحد والعشرون الآية العاشرة): ” فقالت لإبراهيم اطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحق “..
(3)الأغيار: كل الامم والشعوب خلاف بنى إسرائيل وتنطق بالعبرية؛ “غواييم” وتشبه فى العربية لفظة غوغاء؛ أى الشعوب التى لم ينزل عليها الكتاب مثل بنى إسرائيل، فلما اتبع المسيحيون عيسى رسول الله، صاروا من الأغيار فى نظر اليهود، ولأحبار اليهود والتلموديين أقوال لاذعة مليئة بالكراهية فى الأغيار.
(4) نبى العرب: المقصود هنا سيدنا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ بعض اليهود القرائين اعترف بنبوه “محمد” رسول الله عليه أفضل الصلاوات والتسليمات، ولكنهم أقروا أن راسلته وبعثته كانت للأميين من جزيرة العرب، أما المسيح المخلص فلايزال اليهود ينتظرونه بكل طوائفهم و فرقهم المختلفة.