شعر وحكاياتعام
أرملةُ الوقتِ
بقلم عائشة المؤدب
قَبْلَ الشّروعِ في رَصْفِ نهارٍ جديدٍ، كانت كلَّ صباحٍ تُراقِبُ الكلِماتِ وهي تَقفِزُ من فنجَانِ الْقهوةِ كَغربَانٍ جائعَةٍ، تُعارِكُ شاعِرَهَا الْمنفِيَّ في دمِها حوْلَ مصْروفِها الْعاطفِيِّ الزّهيدِ، تُحَادِثُهُ عَنْ وَجْههِ يُطَالِعُهَا مِنْ قُمْرَةِ حُلْمِهَا، تَتْرُكُهُ يَمُوجُ بَيْنَ أسْمَائِهَا وتَلْتَفِتُ إلَى النّافذةِ الْمُعلّقةِ على الْجِدارِ، تَبْحَثُ عنْ طَيْفِهَا على وَجْهِ الزّجَاجِ المعتِمِ. تتثَاءَبُ النّافذَةُ وَتُسْدِلُ سَتائِرَهَا ناَعِسَةً وَلاَ تنْطِقُ، مُطْمئنَّةً، لاَ أثَرَ لِحزْمَةِ ضَوْءٍ يُهَرِّبُهَا الخَيَالُ.
كلَّ ظَهيرةٍ، كانتْ تَمنَحُ نفْسَها لصوْتٍ ترَنّحَ بيْنَ غفْوَةٍ وغبْطةٍ تائهةٍ، امرأةٌ تُروِّضُ في مُخيِّلتِها صورةَ الْبابِ الْمعتَّقةِ بالصّمْتِ، تُعِدُّ طعامًا مالحًا لطفلٍ تعوّدَ أنْ يَشْربَ حليبَ الْمعاني، تَرْتِقُ عباءَةَ الوقْتِ بخيْطٍ منْ ذهُولٍ، تُوَشِّحُ ذَيْلَ خَيْبَتِها بِعَقيقٍ لا يُومِضُ، مُطْمَئنَّةً، لا أثَرَ لحِزْمَةِ ضَوْءٍ تُوقِظُ الحواسَّ.
عِندَ المَسَاءِ، تُجَمِّلُ الْمَكانَ في ذَاكِرَتِهَا بِوَابِلٍ مِنْ هَمْهَمَاتٍ نَائِحَةٍ، تُجَدِّدُ رَصِيدَ الطَّيْشِ لِشاعِرٍ يُرَاوِدُهُ الْمَوْتُ كَفِكْرَةٍ رَائِعَةٍ، كُلَّ مَسَاءٍ أَيْضًا، تَمْتَطِي صُورَةً شَرَعَتْ عَنَاكِبُ الْغُرْفَةِ الأَلِيفَةِ فِي رَسْمِهَا، تُوقِظُ كَائِنَاتِ الْفَرَاغِ الْمُترَبةِ تُسامِرُهَا وتَذْرُو مَزِيدًا مِنَ الرَّمادِ، تَعُودُ مِنْ وهمْهَا قبْلَ الليلِ بقليلٍ، تُعلّقُ النافذةَ الخرسَاءَ قُبالةَ حلْمِها تُكدّسُ خلفَهَا الهواءَ وتهدمُ رصْفَ النهارِ وترقدُ. مُطْمَئنَّةً، لاَ أثَرَ لحِزْمَةِ ضَوْءٍ تُعكِّرُ منَاخَ الغُرْفَةِ.
اليَوْمَ هِيَ تَجْلِسُ قُبَالَةَ النّافِذَةِ، تحِيكُ منَ العَتْمَةِ سَتَائِرَ وَتَرْصِفُ غُرَزًا عَلَى طُولِ الوقتِ، ينزلقُ الخَيْطُ مع رائحةِ الهواءِ الباردةِ، لا رغبةَ للمكانِ في البكاءِ الآنَ إنّمَا هُوَ صَوْتُهَا، هَمْهَمَاتٍ مُعْتِمَةً تَنِزُّ مِنهَا مُطْمَئنَّةً، غيْرَ أنَّ النّافذةَ المغَلَّقَةَ تَبسَّمَتْ وهيَ تمدُّ إصبعًا متوهّجًا، تَلعقُ الْغبارَ السَّابِحَ في اللاشيْءِ، تَبتسِمُ! … كمَا لوْ أنّها تبتسمُ! تَلْمَعُ! تَرْتَجِفُ اليَدُ، يَنْفَلِتُ الخيْطُ ويومِضُ العَقِيقُ.
بَريقٌ؟ … عاصفةٌ من ضوْءٍ؟
يَنْشَقُّ الليْلُ وتضْحكُ الْعَنَاكِبُ بزغَبٍ زَهرِيٍّ
يصْرخُ الشّاعِرُ
يَعْوِي الطّفْلُ
يَمُوجُ الوَقْتُ وَيَنْحلُّ
تَرتَجِفُ العَتْمَةُ، تشْرَئبُّ
يتَقَافَزُ العَقِيقُ المنفلِتُ عاصفةً من ضوءٍ تَغزُو الْغُرْفَةَ كسِيَاطِ نُورٍ، تَلْفَحُهَا. يَصَّاعَدُ النّفَسُ مَعَ الشّهْقَةِ، تَلهثُ، بحْثًا عنْ نفَسٍ يَرْتَدُّ، تَتعثّرُ على حافةِ الإضَاءَةِ الغَاشِمَةِ، تَسْقُطُ، تَجْرِي في مَكانِها، تَتَكوَّرُ، تَزْحَفُ إلَى البَابِ الموصَدِ ولاَ تَصِلُ …
صُراخٌ في أُذُنَيْهَا … طَنِينٌ
لم تصلْ يداهَا اللاّهثَتَانِ أبعدَ مِنْ صدغَيْهَا والأَنِينُ ينِزُّ بلاَ صَوْتٍ. تُمْسِكُ النّفَسَ الأخِيرَ، تغْرِسُهُ في قَلْبِها المشوَّهِ بالحُلْمِ. هستيريا الضّحكِ
تُباغتُهَا وهي تُفتِّتُ شعاعًا مُمَدّدًا على البلاَطِ سَرَّبتْهُ النَّافِذَةُ بِلُؤْمٍ. يَصْعَدُ النّمْلُ إلى رأْسِهَا بيْنَمَا يَلْعَقُ جسَدُهَا وَمِيضًا مَاتَ للتَّوِّ. رِئَتُها المثقُوبَةُ تُفْلِتُ مِنْهَا وهيَ تَلْطِمُ الفَرَاغَ كمُحَارِبٍ مَهْزُومٍ.
تَلُمُّ العقِيقَ وَتَحْبِسُهُ في كفِّهَا، تتوَعّدُهُ بسِبْحَةٍ ضيِّقَةٍ.
يَمُوتُ الشَّاعِرُ المَنْفِيُّ في دَمِها بِجُرْعَةٍ زائدَةٍ ويَهْرُبُ الطِّفْلُ، تَنْتِفُ العَنَاكِبُ زَغَبَها الوردِيَّ وتَمْلأُ الثُّقْبَ الْمُتدَلِّيَ من النَّافِذَةِ الكاذبةِ.
فِي الخلفيَّةِ عتْمةٌ مُزْمِنَةٌ كَمُوسِيقَى تَصْوِيرِيَّةٍ لِفِلْمٍ سرْيَالِيٍّ، لاَشيْءَ يَتَنَفّسُ. والهوَاءُ المتخَثِّرُ يَبْتَلِعُ السَّاعَةَ الشَّاخِصَةَ نَحْوَ العَدمِ.
سَتَجْلِسُ في هُدُوءٍ، على سِدَّةٍ ضيِّقَةٍ. تُجَفِّفُ الوَقْتَ
وتَقْطُرُ، تَقْطُرُ، تَقْطُرُ …
وتَقْ… تَقْ… تَقْ… تَقْ…
كَحَبَّاتِ سِبْحَةٍ مُنْتَظِمَةٍ في يَدِهَا العَجُوزِ.
كَانَ الإِبْهَامُ المتَحرِّكُ يُعَدِّلُ تقاطُرَ الحبَّاتِ في مَعْبَرِ الوَقْتِ كبُوليسٍ يَمْضَغُ عِلْكَةً ويتَثَاءَبُ.
هَلْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ خَيْطَ السِّبْحَةِ الْمَاكِرِ كَانَ يوَشْوِشُ للعقِيقِ المتقاطِرِ؟ ستعلمُ بَعْدَ قليلٍ أنَّهُ كانَ يُخَطِّطُ لأَمْرٍ طَارِئٍ، ضَوْءٍ طارئٍ..