شعر وحكاياتعام

التّحدّي …

قصة : مصطفى الحاج حسين 

كان عائداً من عمله ، منهكاً لا يقوى على
جرّ نفسه ، فتحت له “مريم ” الباب ، وهتفت
بفرح واضح :
– ” رضوان ” .. أنا أعرف كتابة اسمي .
ظنّها تهلوس، فهي أمّيّة مثله ، فسألها ساخراً
– وكيف تعلّمتِ الكتابة ياعبقريّة ؟.
– من ” سميرة ” ، هي التي علّمتني . 
خفق قلبه ، أمعقول هذا ؟! .. هل يمكن
له أن يتعلّم ، وهو ابن الثانية عشرة ، وبرقت
في ذهنه فكرة ، سرعان ما كبرت ، قبل أن 
يخطو عتبة الغرفة :
– (( سأعرض على ” سامح ” أن يعلّمني ، سأرجوه إن رفض . سأشتري له ” البوظة “))
وفجأة .. شعر برغبة عارمة ، في رؤية
” سامح ” ، قرر أن يذهب إليه حالاً ، وقبل
أن يغسل يديه ووجهه من الغبار والعرق ، ودون أن يغيّر ثيابه المهترئة والمتّسخة ، قفز
مسرعاً، بينما كانت أمّه تعدّ له طعام الغداء.
دخل بيت عمّه ” قدّور “، وجد ” سامحاً” 
محنيّاً على كتابة وظائفه ، فقال بسرعة :
– ” سامح ” أريدك أن تعلّمني كتابة اسمي .
رفع ” سامح ” رأسه نحوه ، وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه :
– تعلّم الكتابة صعب عليك .
– ولماذا صعب ؟!. هكذا سأل بحنق .
– صعب .. ثمّ ماذا ستستفيد إن تعلّمت كتابة
اسمك ؟!.
– سأستفيد ، سأتعلّم كتابة اسمك واسم أبي
وأمي و مريم وسميرة أيضاً .
ضحك ” سامح ” ، فاغتاظ ” رضوان ” وقد
أدرك شعور ابن عمّه بالتفوق عليه ، فأحسّ
نحوه بكرهٍ شديد ، غير أنّه وفي هذه اللحظة
لا يريد إغضابه ، وهو على أيّ حال قادر على
ضربه ، لذلك كبح حنقه :
– ماذا قلت ؟؟.. هل أنت موافق ؟.
هزّ ” سامح ” رأسه علامة الموافقة ، وبقيّ صامتاً يتطلّع إلى الأرض ، كأنّه يفكّر بشيء ما . 
– إذاً هيّا بنا .. تعال علّمني .
– لا .. ليس الآن ، سأعلّمك ولكن فيما بعد .
– ولماذا فيما بعد ؟!.. أنا جاهز الآن .
سأل بلهفة من فقد صبره .
– اسمع يا ” رضوان ” ، هناك فتى في صفّي
يزعجني كلّ يوم ، وأنا لا أقدر عليه ، أريدك
أن تنتظره عند باب المدرسة وتضربه .. هذا
هو شرطي ، لكي أعلّمك ، فما رأيك ؟ .
صرخ ” رضوان ” دون تفكير ، فلقد شعر
بالنشوة والاعتزاز بنفسه ، ” فسامح ” يعترف
بقوته ، بشكل غير مباشر :
– طبعاً أنا موافق .. حتّى من غير أن تعلّمني
، فأنت ابن عمي ، أنا على استعداد لقتله نهائياً من أجلك .
عاد ” رضوان ” إلى بيته ، وهو يفكر :
– (( سوف أجعله عبرة لكلّ الطلاب الذين لا
أحبّهم ، فأنا قويّ ، الجميع يشهد لي بذلك ، وكلّ من يدرس يحسدني على قوّتي .)) .
في اليوم التالي ، وقف ” رضوان ” قرب
المدرسة ، ينتظر وهو متفائل بقدرته على سحق خصمه ، ولذلك فهو لم يحمل معه سلاحاً ، كان يهمس في سرّه :
– (( سأعاركه بيديّ ، وإذا لزم الأمر سأشقّ رأسه بالحجارة . )) . وكان يتخيّل كيف أنّ ” سامحاً ” سيحسدّه على قوته ، ويعرف أنّه بدونه لا يساوي شيئاً.
بدأ الطلاب يخرجون ، فأخذ يحملق فيهم واحداً واحداً .. ولاح له ” سامح ” يرتدي صدريته ويحمل حقيبته، ولمّا اقترب 
منه كان وجهه مصفراً ، فدنا منه وهمس:
-” رضوان “.. أنا خائف .
فصاح ” رضوان ” بصوت مرتعش :
– ولماذا تخاف ؟؟!! .. أنت دلّني عليه فقط .
فقال ” سامح ” بصوته المضطرب :
– سيعرف أنّك ابن عمّي ، وسيقدّم شكوى بحقّي للأستاذ .
– لا عليك .. لن أجعله يعرف من أنا .. سأتبعه
إلى أن يبتعد، ثمّ أنقضُ عليه وأرميه مثل الكلب فوق التراب .
ابتعد ” سامح ” كالمذعور وهو يهمس:
– لقد جاء .. ها هو ، ذاك الذي يحمل حقيبة
سوداء كبيرة .
نظر ” رضوان ” حوله، فشاهد عدداً كبيراً من التّلاميذ متشابهي الثياب ، غير أنه
عرف خصمه من بينهم ، صاحب المحفظة السوداء ، وعندما اقترب منه ، وجده أطول قامة ، وتظهر في وجهه علامات القوّة والشقاوة، تبعه ” رضوان” بينما كان”سامح ” يبتعد ، وهو ينظر خلفه ، بين اللحظة والأخرى .
دخل الخصم في زقاق جانبي ، وأخذ يسرع خطاه ، عندما عاجله ” رضوان ” بصرخة قويّة :
– توقّف ياكلب .. توقّف عندك .
التفت ذو المحفظة السّوداء مستغرباً ،
فرأى ” رضوان ” مسرعاً نحوه وهو يصرخ :
– نعم .. أنت .. توقف ، سوف ألعن أباك .
وفور وصوله هجم عليه ، مسدداً ضربة
قوية على وجهه ، فحمل هذا محفظته ، وهوى بها على وجه ” رضوان ” فتدفق الدّم
من أنفه غزيراً ، فجنّ جنونه .. وزعق :
– سأفعل بأمك يا ابن ال ….
والتقط حجراً كبيراً وقفذف بها خصمه،
الذي تفاداها ببراعة ، واشتبكا بقوة ، وكلّ يحاول أن ينتف شعر الآخر ، بينما دم ” رضوان ” يسيل على وجهه ، والتفّ الصبية يتفرّجون على المشهد المثير ، ومن بعدٍ لمح
” رضوان ” ابن عمّه ” سامحاً ” واقفاً يراقب
المعركة ، فشعر نحوه بالحقد ، كيف يقف هكذا دون أن يساعده ، فهذا الخصم قويّ لا يستهان به ، وندم لأنّه لم يأت معه بسلاح ،
وأصابه الخجل عندما استطاع خصمه أن يلوي له ذراعه ، لا بدّ أنّ ” سامحاً ” يسخر منه الآن ، يده تكاد تكسر تحت ثقل الضغط
، ففكر أن يستغيث ” بسامح ” ، ولكن قوته المزعومة ستهتز حقاً في نظر ” سامح ” ..
تألم كثيراً ولكنّه استطاع في اللحظة الأخيرة أن يصرخ :
– اترك يدي ياابن السافلة .. لقد كسرتها .
ولم يكد يكمل عبارته حتّى جاءته ركلة
على مؤخرته ، تحرّرت يده وركض يبحث عن حجر ، لكنّه وجد صاحب المحفظة ينحني على الأرض ، فانطلق يعدو وخلفه خصمه ، وهو يهتف :
– توقّف يا جبان .. سألعن أباك .
حول سور المدرسة قعد ” رضوان ” حاملاً في طيات نفسه ذلّه وانكساره ، لقد
هزم .. ياللفضيحة ، وكان يتساءل :
– (( كيف سأقابل ” سامحاً ” ؟. وماذا سيقول
هذا الوغد ” لسميرة ” ، التي أتظاهر أمامها دائماً بالقوة ؟؟ .. اللعنة عليك يا ” سامح ” ، هل نصبت لي فخاً ؟!؟!.. هل كنت
تعرف مدى قوة ذلك السّافل ؟؟.. ودفعتني لأتعارك معه ؟ .. أكنتَ تمتحن قوتي ؟!.. أم
كنت مخدوعاً بقوتي مثلما كنتُ أنا مخدوع 
.. ولكنّي سأريك قبل أن أري خصمي ، بأنّي
لست جباناً .. فإن هربت اليوم ، فذلك لأنّي
متعب من العمل ، في الغد سأحتال على أبي
وأبقى في البيت ، وآتي إلى المدرسة ، قسماً
سأهشّم رأسه ، سأضربه حتّى الموت .. فلا
تسخر منّي ياوغد ، وإياك أن تذكر شيئاً أمام
أختك ” سميرة ” .
ما كان عليّ أن أهرب ، كان عليّ أن أحمل
سلاحاً ، وأن أجد حجراً ، بدل أن أهرب .. اللعنة على الحجارة ، حين نحتاجها لا نجدها
.. ما أبشع الهزيمة ؟!.)) .
ظلّ ” رضوان ” هكذا متوارياً ، يفكّر ..
وها قد حلّ الظّلام ، ولا بدّ له أن يعود ، قبل
أن يتفقده أبوه .
وفي اليوم التالي ، استطاع ” رضوان “
أن يحتال على أبيه ، ولم يذهب إلى الشغل،
نهض من فراشه متّجهاً نحو المطبخ ، وأخذ
يتفحّص السكاكين، فانتقى واحدة لينتقم بها لكرامته ويستعيد ماء وجهه من خصمه ، وبسرعة أخفاها وراء ظهره ، حين دخلت عليه أمّه سائلة :
– لمَ تركت فراشك وأنتَ مريض ؟ .
فهرب أمامها دون أن تلمح السكين ، إنّه لا يخافها على الإطلاق ، وهي أيضاً تتستّر عليه فلا تخبر والده بما يفعله . ولقد كتمت
أمر تدخينه السّجائر أمامها رغم تهديداتها
المتكررة .
كان عليه أن ينتظر ، ريثما يحين موعد
انصراف طلاب المدارس ، فقضى هذا الوقت
في محاولة تجربة السّكين في قطع الأشياء
، وقام بالتدرّب عليها ، حيث يقفزها بقوة عن
بعد، فتعلق بأعمدة الكهرباء . لم يشأ أن يقابل
” سامحاً ” ، أجّل ذلك ريثما يسترد كرامته ويحقق انتقامه ، وأقسم :
– (( لو أنّي رأيته الآن ، وشعرت بأدنى بادرة منه على السّخرية والتقليل من شأني ، لكنت قتلته بالسكين فوراً . )) .
انصرف الفوج الأول ، وتدفق الأولاد مندفعين مبتهجين لاستعادتهم حريتهم ، فأسرع إلى زقاق معركة الأمس ، مصمماً على الانتقام ، في نفس المكان الذي شهد انهزامه ، حتّى لا يشعر بالخجل والعار كلّما
مرّ به .
وقف عند الزاوية مترصداً الذاهبين والقادمين ، إلى أن برز خصمه قادماً من بعد
، خفق قلبه في حين اشتدّت قبضته على السكين .. اختبأ عند المنعطف محدثاً نفسه :
– (( سأباغته بطعنة في بطنه .. وأهرب .)).
حينما اقترب ذو المحفظة السّوداء ، وصار بمحاذاة المنعطف ، برز له ” رضوان ” شاهراً سكّينه بيده ، انتبه الولد لهذه الحركة
السّريعة ، فتجمّد مكانه لا يعرف ماذا يفعل ،
فسارعه ” رضوان ” بهجمة تريد أن تصل بطنه بطعنة خارقة ، وقبل أن يصل إليه ، انقضّت يد جبّارة لرجل شاهد ” رضوان ” يمشي خلف خصمه ، ولكنه لا يدري كيف غفل عنه .
زعق الرجل وهو يشد بقوة يد ” رضوان ” :
– ارمِ السّكين على الأرض ياكلب .. كدت تقتل ابني .
سقطت السكين .. وصرخ ” رضوان ” :
– دخيلك ياحجي .. اتركني .
في تلك اللحظة شاءت الأقدار أن ينعطف
” قدور .. أبو سامح “، في هذا الزقاق ، ويبصر ابن أخيه، فركض نحو الرجل صارخاً:
– ” تترجّل ” على ولد ياجبان .
– سألعن والده .. كاد يقتل ابني .
لم يحتمل ” قدور ” وسدّد قبضة قويّة على عين الرجل ، فترنّح الرجل بينما كانت
يده تضغط مكان الضّربة ، وبدأ الصّياح ، فالتمّ الأطفال حول المتشابكين ، وفتحت النساء الأبواب وبدأن بالصراخ .
وفجأة .. وبسرّعة فائقة .. انحنى الرجل
والتقط سكين ” رضوان ” وقبل أن يتفاداه العم ” قدّور ” ، كانت السّكين قد استقرّت في بطنه ، تعالت الأصوات .. والصرخات ..
من كلّ صوب ، بينما كانت عينا العم شاخصتين ، لقد أذهلته المفاجأة ، وانطلق الرجل القاتل يعدو .. ومن خلفه ابنه .. ووقف ” رضوان ” يبكي ، لا يعرف كيف يتصرّف ، ولم يتحرّك إلاّ بعد أن خرَّ عمّه على الأرض ، فأخذ الطفل ” رضوان ” يركض
صارخاً :
– لقد قتل عمّي ” قدّور .. عمّي مات .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock