بقلم
المؤلف والمخرج
فارس البحيري
ظهرت السينما للوجود في أواخر القرن التاسع عشر و إزدهرت في القرن العشرين ، لكننا كبشر مخلوقات ذات وعي و عقل اعتادنا على المضمون و الفكرة، فقد كان الأمر على نطاق فردي و غير قابل للمشاركة، أما الآن فأصبحت مشاركة ‘الأفلام’ أو الرؤى السينمائية مع الغير و إمتدت الأمور إلى ما هي عليه الآن . السينما ليست دخيلة كفكرة على الإنسان، للإنسان مخيلة خصبة في عقل كل واحد منا على مر العصور، نصور و نخرج و نكتب سيناريوهات متعددة ، في أحلامنا و رؤانا و أمانينا و ما نشتهي الوصول إليه و ما نصبوا إليه و كيف نتمنى أن يكون الواقع.
الفنان الأمريكي-الكندي ”آرت لينكليتر” يقول : ” البشر عرفوا كيفية مشاهدة أي عمل سينمائي، لأننا نقوم بها الأمر منذ آلاف السنين في عالم الأحلام . هذا السينما كانت طبيعية ، حدسية و بديهية منذ البداية، المشاهدة فطرية عندنا لأننا نقوم بها كل ليلة في النوم، يضيف أن ما وقع و يقع مع السينما هو التقدم التكنولوجي إلتقى بالوعي في شكل جديد من أشكال الفن، الأمر الذي أعطانا صلاحية الولوج في عوالم خيالية، سامية و راقية.
العصرنة التي نعيشها الآن، التقدم الكبير في العلم و الطب و الميكانيك و التكنولوجيا و الفضاء…إلخ، في البدايات و الجذور كانت الأمر مجرد حلم أو سيناريو فيلم خيال علمي في مخيلة البعض و هكذا دواليك استمرت المسيرة ، تم تلقيح الأدمغة و الحضارات على مر العصور و الأزمنة، حتى وصلت الأمور لما عليه الآن و ستستمر على هذا المنوال.
المستقبلي الأمريكي ‘جاك فريسكو’ تناول في إحدى محاضراته إشكالية الإبداع و العبقرية، حيث أكد أن الأمر ليس وليد اللحظة أو بدون أصل، كل الإختراعات و الإبداعات لها جذور و أصول, تناقلت الأفكار و بذرة الأفكار من عقل الى عقل آخر، أستنسخت عبر الزمن و سارت و كبرت و إمتدت حتى تجلت في ذهن من سيعلنها و يخرجها للوجود, التجربة و المشاركة و تجلي النفس و بصمة الكينونة الخاصة و الإرث الحضاري كلها تلعب دورا أساسيا في التطور الحضاري و البشري، و السينما في عصرنا هي وسيلة من وسائل هذا التلقيح، في الخير و الشر .
الرسام الإسباني الشهير ‘بابلو بيكاسو’ له مقولة فحواها: “كل ما تتخيله هو واقع” أما ‘ألبرت إينشتاين’ الغني عن التعريف فقد قال: “الخيال أهم من المعرفة،المعرفة محدودة أما الخيال فهو يحيط بعالمنا”، هنا تتجلى مجددا قوة الخيال و إرتباطه بالواقع . السينما بها قوة تحويلية و تأثير نفسي داخلي على المشاهد عندما يتعلق الأمر بعمل سينمائي عبقري أو جيد ، عندما يلامس هذا العمل جوانب في شخصية المتلقي و يداعب مناطق حسية في دماغه، عندما يثيره ذلك الخيال الواقعي و يحثه عاطفيا و يسيره شاعريا، يطبع نفسه في العقل الباطن للمتلقي و يغيره كينونته من الداخل و يجعله يدفع تلك الحدودة الوهمية لمعرفة المزيد عن نفسه.
السينما مرتبطة بالواقع، هي وسيلة ربط ما بين العقول، وسيلة نقل تختص في نقل الأفكار و الآراء و الخيال و الواقع، وسيلة لمعرفة حقيقتنا و ما يجول داخلنا، لإدراك هويتنا و كينونتنا، إذن فالسينما مرتبطة بالعقل، الروح، القلب و الحواس، فكما قال المخرج و الكاتب الفرنسي-السويسري ‘جون لوك غودارد’ : “السينما هي الحقيقة 24 مرة في الثانية”، إذن هناك رابط لا يمكن نكرانه ما بين السينما الواقع بين السينما و الإنسان
المنظر و الباحث الأمريكي في الفن ‘جين يانغبلود’ ذكر في كتابه “السينما الموسعة Expanded Cinema” أن : ” السينما تعكس رغبة و إلحاح النفس البشرية في إظهار و مشاركة وعيها، كينونتها و أفكارها خارج نطاق الجسد و العقل أمام الملأ ” ، يرى أيضا أن السينما مرآة نحملها أمام أنفسنا لتظهر لنا أنفسنا أمام أعيننا . السينما هي جزء منا و من واقعنا, و تساعدنا على إدراكه.
الباحث الأمريكي جين يضيف أن السينما هي تكنولوجيا لمشاركة الأحلام تساعدنا على الترحال في فضاء الحقيقة، فضاء الأصل و النموذج الأول، فضاء الميثولوجيا و الأسطورة ، السينما من وجهة نظره أرض سحرية غير محدودة , أرض القصص و الحكايات حيث نفقد و نجد ذواتنا في نفس الوقت.
عالم النفس الألماني-الأمريكي ”هيوغو مونستربرغ ” يقول : “السينما تطيع قوانين العقل أكثر من إطاعتها لقوانين العالم الخارجي”. الكاتب الروسي ‘ليف مانوفيتش’ يرى أن السينما في جوهرها فرع جديد للرسم, أو كما يحب أن يقول ‘الرسم على الزمن’ . السينما فتحت بوابة لعالم جديد, عالم لا يصور اللحظة الآنية فقط بل يتعداها في الزمن ، أصبح بالإمكان التعبير في بعد الزمكان، تفوق على الصورة و اللوحة الفنية في التجسيد و الإيصال و في ملامسة الروح.
السينما مثل حلم يقظة، يخيل لك السفر في الزمان و المكان، بل حتى السفر في عقل إنسان آخر، الأمر أصبح أشبه بواقع إفتراضي أو حتى واقعية حقيقية. يتعمق الروسي مانوفيتش أكثر و يقول أن تلك المحاكاة العاطفية التفريغية، و تلك الرحلة الرمزية المجازية التي يقوم بها البطل, في كل مرة نشاهد فيها فيلما ما، تصبح حقيقية بالنسبة لنا، تصبح تلك المشاهد و الصور و الأصوات ذات قيمة عاطفية و روحانية بالنسبة لنا . مشاهدة فيلم ما بمثابة ترحال للروح، تتحرك و تتأرجح و تتأجج ، يفسر ذلك مقولة أن المخرج يمنح حيزا زمكانيا, حلما فريدا من نوعه، فيقوم المتلقي بملأ جزء منه من روحه و يعيش فيه و يحاول إيجاد معنى و إسقاط ما يراه و يشعر به على نفسه.
عالم اللغة الأمريكي ‘توم مؤلف كتاب : “السينما الخرائطية Cartographic Cinema” ، يقول فيه أن السينما هي بمثابة علم الخرائط للعقل، و خريطة للوعي، تمنحنا التوجيهات في مملكة الخيال الواقعي . كلما كبرت القوة كلما زادت المسؤولية, فالسينما كأداة و تقنية للتنوير، تجعل المخرجين و الكتاب و كل الحرفيين الذين ينتجون أعمال سينمائية أمام مسؤولية جسيمة، تتجلى في إتقان الحرفة بغية دفع النفس البشرية نحو الجمال و توسيع الوعي الاجتماعي و الفني للبشر.
تختلف الآراء و التوجهات و النظريات، لكن القاسم المشترك بين ما تم تناوله أعلاه أن السينما ليست شيئا تافها أو فارغا ، فهي كفكرة و مضمون و فن، قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من الهوية الإنسانية الحديثة.
السينما فن من الفنون الجميلة، و ككل شئ في هذه الحياة هناك الجيد و السيء، نرى الأفلام تتباين و تختلف في قيمتها الفنية و التقنية ، و كذلك في الأنواع السينمائية و الأصناف، الأفلام منها الجيد و منها السيء، منها المتوسط و منها الأسطوري.