“قصة قصيرة “
بقلم : شيماء ابراهيم
قرر أن يرحل … لملم شتات نفسه المتهالكة ، وبقايا روحه المهترئة ،وحقيبة ذكرياته المبعثرة …و ذهب لفضاء متسع تكسوه الخضرة وألقى بجسده المنهك من فعل السنين على الأرض … لعل التربة البارده تمتص شيئا من النيران بأحشاءه … أغمض عينه حتى هدأت أنفاسه اللاهثة …وبدأ الشريط المكرر بعرض صوره المتتالية كما جرت العادة … تذكر حين كان يوما نجما لامعا … حين كان يتيه بنجاحاته … حين سافر لبلاد المجد … حين استسلم للحقنة الاولى … وحين اتبعها الثانية والثالثة … وحين التقاها … وحين عشق الطهر في عينيها … وحين قبلها القبلة الأولى … وحين اتبعها الثانية والثالثة … وحين جن ذاك الليل فالتحما …وحين أشرق النهاربعدها ليشهد نزاعها الأخير .. وحين شاهدها تسلم الروح بينما وقف هو مشدوها عاجزا عن الحراك …. وحين ذهب الإخوة دون وداع أخير …. وحين عاد كسيرا … وحين عاش شريدا مريضا ….وحين بقي وحيدا …. وحين قرر أن يرحل !!
ما عاد في هذه الحياة متسعا له … فالأرض ضاقت بما رحبت …هكذا حدث نفسه وهو ينظر للسماء … ويتأمل تلاحم السحب ثم افتراقها … اغمض عينيه مستسلما لآلام جسده المبرحة … وقرر الصعود … تخيل الألوان كلها وقد جمعت وخلطت حتى أصبحت لونا واحد … الأبيض النقي … حاك له ثوبا ابيضا كالذي يرتديه الدراويش ويدورون به في لحظات التجلي … وأخذ يدور رافعا يده لأعلى منسجما مع موسيقى صوفية أخذت تشق طريقها لأذنيه وروحه … غمرته النشوة … فراح يزيد من سرعته … فقد الاحساس تدريجيا بكل ما يحيط به … الآلام .. الناس … الذكريات .. الصخب ….. لم يعد يستشعر سواء الفضاء العلوى يحيط به و بقايا موسيقى تؤنس صعوده …. أحس بالتحرر من قيود الجاذبية …بدت روحه خفيفة …تصعد كيفما شاءت … والبرودة تمنح روحه قشعريرة لذيذة … فتح عينيه … سواد حالك يلف الكون … أمعن النظر قليلا فإذا بنقاط فضة تلمع في الأفق البعيد …قرر مواصلة الصعود حتى الوصول إليها … وحين وصل …هاله البريق !!… وأسر فؤاده كم الضياء المتبلور حولهم … من هم ؟! وكيف جاءوا ؟! تمنى لو بالإمكان أن يحدثهم … وأن تكشف الحجب فيتعرف عليهم ! … نظر بعين روحه فأبصر نفسه في هذا الفضاء الشاسع كورقة خريف جافة يابسة !! … نظر لأعلى واستسقى الرب طالبا بضع قطرات من ماء النور … نادى … يا الله …يا نور … فاذا بقطرة وميض تأتيه من أعلى .. تسقط عليه … تعيد الحياة للورقة التي صارت خضراء تتلالا عليها قطرات الندي الفضية … وما هي إلا لحظات وقد أحاطت به هالة من النور … فصار يرى إخوته من حوله و يتعرف عليهم الواحد تلو الآخر … حينها رآها متلحفة بالنور والحبور .. وحينها سكنت نفسه وارتاحه روحه التي أخدت تكمل رقصتها الصوفية بنشوة غريبة لا تعرف التوقف !!
رئيس قسم هو وهى : داليا طه
