ليس غريبا أن يحتفظ النص الوجيز -ومنه هذا النصّ – بملامحه وقيمته الإبداعية، كيفما قلبناه هو حالة إبداعية مختزلة، ولكن بموضوع وتيمة يُشكلان متنا لرؤية بارقة معمقة، إذ يبدو لمحة مؤثّرة، مأخوذة بعناية من إحدى زوايا كاميرا المبدع للنظر إلى الواقع..
ا=====
نص استجاب لخصائص الفن الومضيّ من فعليّة جمله بزمن الماضي.. إلى قصره وتركيزه وبؤريّته الوامضة..
في البدء لا يشك أحد أن النص ينهض على جملة من ركائز ظاهرة بارزة أهمها:
1-واقعيّة الرؤيا (واقع المعرفة والجهل)أي أنّ الكاتب بنى عالمًا خاصًا مقابل عالم الآخرين.
2-الإيحاء والتركيز والتكثيف الذي يشمل:( بدءا من إسميّة العتبة ومرورا بما يشير إليه التوازن اللفظي بين كفتيّ الومضة والفاصلة التعليليّة)
3- مفارقة أسلوبيّة وخاتمة مدهشة دالّة على منحىً قصصيّ:
(لما أنْ: نضب/ ارتوى ثم تضاد: عارف / ضلال) مفارقة مبنية بشكل بؤريٍّ انفجاريّ مدهش يُفارق اللانصّ الى تميّز بالنص المسرود وامضٍ حافلٍ بالشعريّة والإيحاء.
4- اللغة السلسة التي توضع فيها المادة الخام والخلطة/التركيبة.
مجمل القول أن هذا النص (بوار) نص ابداعي حرص على الإيقاع من خلال ثنائيّة الحركة والسكون الموجودتين (نضب: الفعل الثلاثي الساكن)/ (ارتوى الفعل افتعل: المزيد المتحرك)، وانتقى اللغة الشعريّة، والمجازات من جهة (انزياح شعري ومجازي: اذ كيف ينضب غيث عارف) بغية بناء النص على نسق من الواقع لحكاية تبدو علامات السخرية والباروديا..
عليها بارزة…
ا=============
ثانيًا: سياقات تناصيّة.
ا==============
يقول عبدالرحمن بدوي إن “روائع الأدب العالميّ أربع هي الإلياذة لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي، ودون كيشوت لسرفانتس، وفاوست لغوته”…
لو نتدرّج بهذا القاموس:
[الغيث |||||. والأرض||||||. والارتواء]
ونتذكر ما علق من روايات بذائقتنا الادبية..
فمن الوهلة الأولى حين ذكر الغيث والارتواء او نضوب المطر يتبادر إلى ذهننا معنى “الدونكيشوتيّة” ومعارك طواحين الهواء.. برواية الكاتب الروائيّ “ميجيل دي سرفانتس”، التي كتبها عام 1605، وفاقت شهرتها الآفاق..
لو ننظر للنص سياقه ومعجمه:
ا================
بوار
نضب غيث العارفين؛ ارتوت أرض الضلال.
إيهاب عبد الله من مصر
ا============
انه كما الكاتب الاسباني «ميغيل دي سرفانتس» وبطله الفارس المهووس «دون كيشوت».. الذي كان يصارع طواحين الهواء التي توهم أنها “شياطين لها أذرع هائلة تقوم بنشر الشرّ في العالم”، قام دون كيشوت بمهاجمتها…. يقول ألونسو*وألونسو.. كيخانو وهو الذي سيطلق على نفسه لاحقاً اسم “دون كيشوت”..
“لقد وُلدت في هذا العصر الحديديّ لكي أبعث العصرَ الذهبي”
ومنه: إن“دون كيشوت” ذلك الفارس الطويل النحيل، كم توهّم بأن طواحين الهواء شياطين تنشر الشرّ في العالم، فقرر أن يحاربها وكانت هذه نهايته.
يتّكأ هذا النص (بوار) على محاربة الضلال والجهل والشر في محمل متنه الومضّ..
كما أن هذا النص (بوار) يعود بنا الى الناعورة الهوائيّة ويعود ألقها القديم..
فإذا كانت من قبل تتربّع على الرّوابي وبالسّهول وعلى سطح البحر وتنصب شراكها للرّياح لتلتقطها رياحٌ مواتية، فإننا نراها بهذا النص بوار تنصب طواحينها بالأفكار والقيم والمبادئ..
وكما تنفخ تلك الرياح في ألواحها لتولد الكهرباء وتضخّ ماء النّهر للرّي والارتواء ولطحن الحبوب.
فإن ناعورة الهواء التي وقف عندها نص ايهاب عبد الله بطلها الشخصيّة (غيث) ( دون كيشوت) والتي تتحرك ضمن ناعورة الومضة ذات كفّتيّ الميزان.. لتحدّد حبكةً، وصراعًا، وتأزمًا، فانفراجا:
انظر
فكفة اولى (نضب غيث العارفين)تلتقط السبب بالفكرة وتديرها كالرّياح بطاحونة العالم.. تُلقي بألواحها الدوّارة عرض الرياح والفكرة الباهرة..
وكفّة ميزانٍ ثانية ( ارتوت أرض الضلال) تحدد نتيجة ذاك الصراع ومآلاته..
فكما تتهرّأ الطواحين وتتعب مغازلها وتعوجّ من فرط الصدمات.. فان طواحين الفكرة العارفة الناضجة تتكسّر أمام الجهالة، والضلال ..كما لو كانت القطيعة المعرفية مع التصورات الجاهزة..
كأن النصّ يقول :
متى يعترف طحّان اليوم بالبوار ومتى يُعرَفُ مقامُ العارفين ونُبعد عنه أشباح الجهلة والجهالة التي تسرّبت إليه..
والنص يذهب بعيدا ويقولها صراحة .. إن الاستبداد خطر والأخطر منه الاستبداد بالآراء ومحاولة السيطرة على العقول..
ا======
الخاتمة
ا======
هكذا ينضوي خلف صياغة هذا النص الموجز جمالٌ أدبي، وصنعةٌ مرهفةٌ، وتلميحٌ بدلاً من تصريح.. يتجلى جمال النصّ في بنائه بتلك الكثافة الشديدة والإيحاء البالغ، البليغ، ليفتح النص على نهاية مدهشة، تتبنّى مفارقة وتضادا منبثقيْن من حال موقف ولحظة فارقة، كما لو كان صاحبُ النص ينطلق من ايديولوجيا يحاول أن يبرر صورة الواقع الكليّة بضربة موجزة واحدة، وبنسيج لمادته النصيّة عضويََّا