كتب . أبو العلا خليل
صاحب هذه التربة هو القاضى الفاضل عبدالرحيم بن على البيسانى وزير السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب . يذكر بدرالدين العينى فى عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان (استعان صلاح الدين الأيوبى بالقاضى الفاضل فى ازالة الدولة الفاطمية وكان كاتبه وصاحبه ووزيره ومشيره وجليسه وانيسه ،وكان اعز عليه من أهله واولاده ،وتساعدا على فتح الأقاليم والبلدان والحصون والمعاقل هذا بحسامه وسنانه ،وهذا بلسانه وقلمه وبنانه ،حتى ان صلاح الدين كان يقول فى الملاء من الناس :لاتظنوا انى ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضى الفاضل).
وبعد وفاة صلاح الدين استمر القاضى الفاضل على ماكان عليه عند ولده الملك العزيز عثمان فى المكانة والرفعة ونفاذ الأمر . يذكر ابن خلكان فى وفيات الأعيان (شغف العزيز بن صلاح الدين بجارية شغلته عن مصالحه وبلغ ذلك والده فمنعه من صحبتها فشق ذلك عليه وضاق صدره فلما طال الفراق بينهما ارسلت اليه الجارية مع بعض الخدم كرة عنبر فكسرها فوجد فى وسطها زر ذهب فاحتار العزيز عثمان ولم يعرف
معنى ذلك واتفق حضور القاضى الفاضل فأنشد :
أهدت لك العنبر فى وسطه / زر من التبر دقيق اللحام
فالزر فى العنبر معناهما / زر هكذا مستترا فى الظلام
فعلم العزيز انها ارادت زيارته فى الليل . ومن آثار القاضى الفاضل “المدرسة الفاضلية” بدرب ملوخيا – درب القزازين حاليا جهة جامع سيدنا الحسين- اقامها بجوار داره عام 580هـ ووقفها على طائفتى الفقهاء الشافعية والمالكية وهى اول مدرسة فى العصر الأيوبى قامت على تدريس مذهبين معا وكانت قبلها كل مدرسة تدرس فقها بعينه .
وقد اختار القاضى الفاضل للأقراء بمدرسته المقرئ الضريرابى القاسم الشاطبى ولما جاء اجله عام 590هـ دفنه القاضى الفاضل بتربة عائلته اسفل جبل المقطم . وقد زار المدرسة الفاضلية الرحالة عبداللطيف البغدادى زمن العزيز عثمان فكتب فى “الأفادة والأعتبار ” يصف القاضى الفاضل (كان شيخا ضئيلا له حدبة بظهره ويخفيها بطيلسانه وكله رأس وقلب يكتب ويملى على اثنين فى وقت واحد ووجهه وشفتاه تلعب بألوان الحركات لقوة حرصه على اخراج الكلام ).
كانت مدرسة القاضى الفاضل من اجل مدارس القاهرة واعظمها خصصت بها مساحة كبيرة لمكتبة ضخمة بلغ عدد مجلداتها اربعمائة الف مجلد وقد ظلت هذه المكتبة عامرة بكتبها حتى وقع الغلاء بمصر سنة 696هـ يذكر المقريزى فى السلوك (فصار الطلبة يبيعون كل مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ماكان فيها من الكتب ). وقد حفظ لنا الزمان من مكتبة القاضى الفاضل مصحف شهير ينسب للأمام الراشد عثمان بن عثمان رضى الله عنه اشتراه القاضى الفاضل بستة وثلاثين الف دينار . والمصحف يخضع الآن للترميم بالمكتبة المركزية للمخطوطات الأسلامية المجاورة لمسجد السيدة زينب رضى الله عنها .
وللقاضى الفاضل قيسارية –اى سوق صغيرة- داخل باب زويلة يسرة الخارج منها يذكر المقريزى فى الخطط(هذه القيسارية عرفت بالقاضى الفاضل عبدالرحيم بن على البيسانى وهى ذات بحرة ماء للوضوء بوسطها واخرى بجانبها يباع فيها جهاز النساء وشوارهن ويعلوها ربع فيه عدة مساكن).
وبحذاها اقام القاضى الفاضل حمام للرجال وحمام للنساء ينسبان اليه ايضا يذكر على مبارك فى الخطط التوفيقية (والتى للرجال هى حمام السكرية تجاه الباب الكبير للجامع المؤيدى والتى للنساء هى داخل عطفة الحمام).
وعند ميدان اللوق- باب اللوق حاليا- كان للقاضى الفاضل دارا وبستانا شهيرا كانت مصر والقاهرة كلها تأكل من ثماره واعنابه يذكر المقريزى فى الخطط (فلم تزل الباعة ينادون على العنب “رحم الله الفاضل ياعنب” الى مدة سنين عديدة بعد ان اكله البحر ولم يبق له على آثر).
وفى عام 596هـ وصل العادل ابوبكر بن ايوب من الشام لأخذ ديار مصر وفى ركابه وزيره الصاحب صفى الدين بن شكر وكان يناصب العداء للقاضى الفاضل حتى انه اقسم ليمرغن شيبته على اعتابه حال قدومه فقد كانت بينهما وحشة قديمة ،فقام القاضى الفاضل تلك الليلة يبكى
ويتضرع ويصلى فى أحوج مايكون الى الموت فأصبح ميتا فاتفق يوم وفاة القاضى الفاضل سحر يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الآخر سنة 596هـ يوم دخول الملك العادل ووزيره الصاحب صفى الدين بن شكر فأنهما دخلا من باب النصر ساعة خروج جنازة القاضى الفاضل من باب زويلة ودفن الى جوار الشيخ الضرير المقرئ ابى القاسم الشاطبى الذى اواه القاضى الفاضل فى حياته ومماته .