كتبت إيناس رمضان
حديثنا اليوم عن حديقة الأسماك أو كما يطلق عليها البعض حديقة الجبلاية وآخرون يطلقون عليها حديقة العشاق….
ولكن أسمح لي أيها القارئ العزيز أن أطلق عليها من اليوم وصاعدا حديقة الحب الأسطورية
نعم الحديقة تحكي لنا قصة حب من النظرة الأولى لم تكتمل لعاشقين التقيا من زمن.
حكاية أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة ولكنها حقيقية جمعت بين الخديوي إسماعيل خديوي مصر وبين أوجيني إمبراطورة فرنسا.
بدأت الحكاية عندما كان الخديوي إسماعيل في مقتبل العمر يدرس في باريس وأثناء تواجده هناك ألتقي بفتاة فرنسية أعجب بذكائها وجمالها الفاتن فشغف بحبها.
ورغم عودة إسماعيل إلى مصر لكن مازال فؤاده عالقاً في باريس ومرت السنين ليصير خديوي مصر أما محبوبته تصبح إمبراطورة فرنسا.
ولكن يظل إسماعيل هائما في حبها رغم البعد والمسافات إنه العشق فقد ملكت فؤاده بجمالها وسحرت عقله بذكائها!
عاش الخديوي إسماعيل وهو يحلم كيف يلتقي بها ولأن من يمتلك الهدف يختلق الوسيلة فقد كان له أمنيتان طيلة حياته قضى عمره ساعيا لتحقيقهما ونجح بجدارة .
الأمنية الأولى أن تصبح مصر من أجمل بلاد العالم وهو ما استطاع أن يحققه بالفعل طيلة حكمه لمصر.
أما الأمنية الثانية أن يدعو أوجيني لزيارة مصر لترى إنجازاته تري هل هذا ما أراده أم اشتاق لرؤية المرأة التي هام بها حبا.
رأى إسماعيل أن ” افتتاح قناة السويس ” ذلك الحدث التاريخي والذي سيتحدث عنه العالم هو ما يليق لاستقبال محبوبته وبالفعل أرسل لها دعوة لحضور حفل الافتتاح ولتكن أوجيني إمبراطورة فرنسا هي ضيف شرف الحفل……..
ولكن كيف استعد إسماعيل لاستقبال أوجيني بعد كل هذه السنوات وهل حقا الحب لا يموت!!!!!!!!
فكر إسماعيل في بناء قصر يشبه قصر” تولير بالاس ” في باريس لإقامة أوجيني و إثارة إعجابها وبالفعل بدأ أولى خطواته بشراء جزيرة على النيل واستدعي خبراء الجمال في المعمار من أوروبا لبناء “قصر الجزيرة” بالزمالك” فندق ماريوت” حاليا الذي يعد تحفة فنية معمارية و من أجمل وأقدم القصور في مصر بدأ تشييده عام 1863 واستغرق بناؤه 5 سنوات وقد وصلت تكلفته أكثر من 750 ألف جنيه وقد كان ذلك المبلغ ضخما جدا آنذاك .
ومن أبرز محتويات القصر نافورة من المعدن المشغول وسلم من الرخام وبعض اللوحات المتنوعة من بينها لوحة للإمبراطورة أوجيني في بهو القصر الفخم ، كما أسس خديوي مصر للجميلة أوجيني غرفتين للنوم أحدهما على الطراز الفرنسي والأخرى علي التراث الإسلامي ” أرابيسك ”
ويذكر أن أحدهما من الذهب الخالص يتصدرها ياقوتة حمراء منقوش حولها بالفرنسية “عيني على الأقل ستظل معجبة بك إلى الأبد”
لم يكتف إسماعيل بالقصر وإنما أخذ يفكر في إنشاء حديقة يتحاكى بها العالم – حديقة الأسماك – والتي تعتبر من أجمل الحدائق على مستوى العالم من حيث التصميم الرائع واستخدام مواد بناء مناسبة للتصميم فقد استعان بعدد من خبراء المتنزهات من باريس لتصميمها بحيث تكون على شكل جبلاية ولذا سميت بحديقة الجبلاية كما استخدم الخبراء الطين الاسوانلي المخلوط بمادة الأسروميل والرمل الأحمر وغيرها لتساعده أيضا في بناء تشكيلات وتكوينات معمارية على هيئة خياشيم ليصبح تصميم الحديقة في النهاية على شكل سمكة وتصير اسما على مسمى و تضم الحديقة 49 حوضا للأسماك المتنوعة والنادرة في نفس الوقت.
الحديقة عنوان للجمال والإبداع في الفن المعماري.
أما الجبلاية من الداخل عبارة عن تكوينات تحتوي على عدد من الممرات والتجاويف التي تسمح بمرور الهواء بداخلها فتصدر صوت أشبه إلي حد كبير أصوات أمواج البحر فتشعر وكأنك سابح في قاع البحر وسط الشعب المرجانية بألوانها الجذابة.
بالإضافة علي احتواء الحديقة على مجموعة من الأشجار والنباتات النادرة ومساحات خضراء واسعة تتخللها عدد من الممرات حالة من الاستمتاع تشعر بها وكأنك داخل محمية طبيعية فريدة الوجود.
هذا ما أراده إسماعيل باشا العاشق الولهان أن يجعل مصر باريس الشرق وأجمل في عيون معشوقته وهذا ما كان……
ذكاء وجمال أوجيني جعلها تتربع علي عرش فرنسا وتصبح زوجة للإمبراطور نابليون الثالث ولكن قلبها ظل نابضا بالحب للخديوي إسماعيل الذي أحبها رغم الفراق ودون أمل في اللقاء وقد بادلته نفس المشاعر فمن منا يمتلك قلبه.
ظلت أوجيني تحب إسماعيل باشا حتى بعد وفاته فقد حرصت على زيارة مصر بعد رحليه آخرها في عام 1905 بعد 47 عاما من رحلتها الأولى ولكن شتان بين أوجيني في الرحلتين ففي الرحلة الأولى كانت ملكة متوجة علي العالم وفي قلب خديوي مصر الذي عشقها ولم يخف حبه لها أمام العالم وشيد لها أفخم وأجمل القصور آنذاك واستقبلها في حفل أسطوري مازال خالداً في الأذهان .
أما في الرحلة الثانية غاب إسماعيل عن الحياة ولكنه مازال حيا في قلب أوجيني تلك المرأة العجوز التي فقدت الكثير من المال والجاه ولكنها مازالت محتفظة ببعض من الجمال الذي سحر ملك فرنسا وعشقه خديوي مصر فقد رآها المصريون والشيب يغزو خصلات شعرها سائرة حول قصر الجزيرة وحديقة الجبلاية والدموع تذرف من عينيها هل كانت تفتقد حب العمر الذي لم تنعم بمرافقته طوال عمرها أم كانت تتذكر أجمل ذكريات حياتها هيهات أن تنسي ذلك الزمن البديع فلم يعد لها سوى الذكريات ، حقا إنه الحنين لما مضى.
وقد تغزل بها الشاعر حافظ إبراهيم قائلاً :
“ولقد زانك المشيبُ بتاجٍ … لا يُدانيهِ في الجلال مُدانٍ”
ودعت أوجيني ذكريات حبها الخالد لترحل بعدها وحيدة فقيرة في بلاد غريبة عام 1920 ، كما رحل حبيبها إسماعيل باشا الذي شيد أغرب وأجمل حدائق العالم لإسعادها.
لقد توفي العاشقان بعد قصة حب من النظرة الأولى لكنها لم تكتمل ولم تنته ستظل خالدة.
كما ستظل حديقة العشاق شاهدة على أول قصص الحب التي شيدت من أجلها ولكنها ليست بالأخيرة.