كتبت / صفاء القاضي
أبو القاسم الشابي الشاعر التونسي المعروف أراد الحياة فأراده الموت , الشاعر الصغير الذي جاء إلى الدنيا ولم يعش طويلا فيها لكن شعره توسد الخلود , أبو القاسم صاحب الروح الرقراقة والشفافة صاحب الكلمة المتوهجة والشعر المؤجج , إن كان أضعفه المرض يوما لكنه أضعف الكون كله بأبياته المتدفقة كشلال في بحر لجي لم تحده شطئان و لم تتوقف أبياته عند حدود الشعر بل بالغت في صداها حتى جاوزت طلقات الرصاص بحث عن الغموض والتغيير ونقب عن الحداثة والتحرير نادى بتحرير الشعر من قوافيه القديمة وشكله النمطي وتحرير الأوطان والشعوب من كل مستعمر و غاصب , إنه الشاعر قصير العمر الذي توفي في عمر 22 عاما متأثرا بمرض القلب , عانى من المرض و من استعمار الوطن ومن عذاب الحب وفقد الشباب , لم يجد لذة في الحياة , و ذاق ويلاتها لكنه ترك لنا ذخيرة حرة من أبيات لا مثيل لها في قوتها وجمالها تحوى البساطة والغموض ويتدفق فيها الحس والشعور تغرقك أبيات الشابي بجمالها حتى لا تفيق من سكرتها و رغم بساطة اللفظ والمعنى القريب إلى القلب لكن لها رنينها الخاص تكاد لا تسمعه إلا وأنت مفعم بالحياة ومنعم بالعشق متوج بالحرية وتبحث عن إرادة الحياة
قصيدة إرادة الحياة
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ .. فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي .. وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ .. تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ .. مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
كَذلِكَ قَالَـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ .. وَحَدّثَنـي رُوحُـهَا المُسْتَتِر
وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ .. وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ .. رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ .. وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ .. يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
فَعَجَّتْ بِقَلْبِي دِمَاءُ الشَّبَـابِ .. وَضَجَّتْ بِصَدْرِي رِيَاحٌ أُخَر
وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ .. وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ – لَمَّا سَأَلْتُ : .. ” أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟”
“أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ .. وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ .. وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ .. وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ .. وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِي الرَّؤُوم .. لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ .. مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر!”
وفي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الخَرِيفِ .. مُثَقَّلَـةٍ بِالأََسَـى وَالضَّجَـر
سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ .. وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر
وتوالت الأحداث العصيبة على الشابي لأنه كان دوما يبحث عن الجديد ويحاول التغيير ويسيرعكس الموج ومن هنا كان تيار التجديد الذي يبحث عنه في الشعر والحياة هو سبب الحروب والمواجهات والمنغصات في حياته , فكل جديد لابد وأن يواجه تحطيم الهمة والإضعاف , ووجد الشابي ضالته في تيار التغيير في جريدة أبوللو بالقاهرة ونشر فيها ومن هنا كانت انطلاقة الشابي من تونس إلى العالم العربي أجمع وكان من رواد هذه المدرسة , حقا لم يمهله العمر لكن الشعر أعطاه الكثير فكانت موهبته غزيرة فياضة ما بين قصائد فخر ومدح وحب الأوطان إلى القصائد الوجدانية الحالمة وقصائد التأمل في الكون والحياة والربيع والجمال , تشتم عبق الزهور من بين أبياته وتسمع صوت رقرقة المياه وزقزقة العصافير في ثنايا حروفه السامقة
نشيد الجبار
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعْداءِ —– كالنِّسْر فوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّاءِ
أَرْنو إِلَى الشَّمْسِ المضِيئّة ِ..،هازِئاً —– بالسُّحْبِ، والأمطارِ، والأَنواءِ
لا أرمقُ الظلَّ الكئيبَ..، ولا أَرى —– ما في قرار الهَوّة ِ السوداءِ…
وأسيرُ في دُنيا المشاعِر، حَالماَ، —– غرِداً- وتلكَ سعادة ُ الشعراءِ
أُصغِي لموسيقى الحياة ِ، وَوَحْيها —– وأذيبُ روحَ الكونِ في إنْشائي
وأُصِيخُ للصّوتِ الإلهيِّ، الَّذي —– يُحيي بقلبي مَيِّتَ الأصْداءِ
وأقول للقَدَرِ الذي لا يَنْثني —– عن حرب آمالي بكل بلاءِ:
“-لا يطفىء اللهبَ المؤجَّجَ في دَمي —– موجُ الأسى ، وعواصفُ الأرْزاءِ
«فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّهُ —– سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ»
لا يعرفُ الشكْوى الذَّليلة َ والبُكا، —– وضَراعَة َ الأَطْفالِ والضُّعَفَاء
«ويعيشُ جبَّارا، يحدِّق دائماً —– بالفَجْرِ..، بالفجرِ الجميلِ، النَّائي
وتظل تلك الرومانسية الحالمة و الوصف الدقيق لعذوبة المحبوبة بصمة خاصة بالشابي , فقد امتزجت القصائد بالمشاعر الجياشة التي ترجمتها ألفاظ قريبة وبسيطة لكنها ناطقة حالمة تخطف الألباب من فرط بساطتها الموحية وقربها البعيد الذي يميزها بظلال خاصة تجعل منها نشيد عشق جميل لا يروق لك إلا أن تغنيه , وله من القصائد المغناة الكثير والكثير فما أعذبها قصيدة ” عذبة أنت ” بصوت قيثارة عربية فذة مثل الفنان محمد عبده والذي يشدو بكلمات الشابي عذبة أنت فيخترق صوته وكلمات القصيده القلوب والمشاعر , وتمنح الشابي عمرا مديدا تعوضه عما قصر عنه عمره …..عذبة أنت
صلوات في هيكل الحب
عذْبة ٌ أنتِ كالطّفولة ِ، كالأحلامِ كاللّحنِ، كالصباحِ الجديدِ
كالسَّماء الضَّحُوكِ كالليلة ِ القمراءِ كالورد، كابتسام الوليدِ
يا لها من وَداعة ٍ وجمالٍ وشبابٍ مُنَعَّم أمْلُودِ!
يا لها من طهارة ٍ، تبعثُ التقديــسَ في مهجة الشَّقيِّ العنيدِ!..
يالها رقَّة ً تكادُ يَرفُّ الوَر دُ منها في الصخْرة ِ الجُلْمُودِ!