بقلـــــم
المستشار الدكتور / السـيد أبو عيطـه
متابعة/ لطيفة القاضي
الإشكالية : تطفو على السطح من آن لآخر إشكالية الزواج العرفي والسري داخل المجتمعات العربية وهو من اكثر الموضوعات إثارة للجدل بين الناس فى كل وقت ، فما هو الزواج العرفي والسري وكيف يتم هذا النوع من النكاح وما هى أسباب انتشاره وما هو موقف الفقه الإسلامي والتشريعات العربية من هذا اللون من ألوان النكاح الإسلامي وما هى آثاره وكيف يواجه وما هو موقفنا من هذا الموضوع الخطير ؟؟
تعريفه : العرفي إصطلاحاً هو ما سار عليه الناس فى شؤون حياتهم اليومية وهو ما تطمئن النفس اليه من الخير . ومن الناحية العلمية فإن الزواج العرفي هو عقد الزواج غير الموثق بوثيقة رسمية أو هو كامل الأركان والشروط إلا أنه غير موثق رسمياً ، فالفارق الوحيد بين الزواج العرفي والزواج الرسمي أن هذا الأخير موثق رسمياً بالمحكمة أو السجل المعد لذلك قانوناً ، أما الأول فهو غير موثق فى هذه الجهات . وسُمى عرفياً لأن مصدره العرف منذ عهد الرسول ﷺ وعلى ذلك يكون الزواج العرفي هذا زواجاً مشروعاً لا غبار عليه هذا من الناحية الشرعية فقط لكنه يثير المشاكل من الناحية القانونية أو النظامية ولا يعتد به فى المحاكم.
وعلى ذلك فإن عقد الزواج إذا استوفى أركانه وشروطه الشرعية تحل به المعاشرة بين الزوجين وليس من شرائطه الشرعية إثباته كتابة فى وثيقة رسمية ولا غير رسمية إنما التوثيق لدى المأذون أو الموظف المختص نظام أوجبته اللوائح والقوانين الخاصة بالمحاكم الشرعية خشية الجحود وحفظاً للحقوق ، وحذرت من مخالفته لما له من النتائج الخطيرة عند الجحود .
هذا ولقد اكتفى المسلمون الأوائل فى سابق عصورهم بإبرام عقد الزواج بألفاظ مخصوصة وتوثيقه بالشهادة ولم يكن هناك آنذاك ثمة حاجة إلى كتابته ، ومع تطور الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وما يمكن أن يطرأ على الشهادة من عوارض وأحوال وما يقتضيه واقع الحال باتت هناك حاجة ماسة لتدوين العقود الخاصة بالزواج ، مما اقتضى النص فى القوانين واللوائح على ضرورة توثيق عقود الزواج وإظهارها عند الإنكار .
لقد ابتدأت كتابة العقود عند المسلمين عندما بدأوا يؤخرون المهر أو شيئاً منه ، وأصبحت هذه الوثائق التى يدون فيها مؤخر الصداق أحياناً وثيقة لإثبات الزواج . يقول بن تيمية فى هذا الصدد : ” لم يكن الصحابة يكتبون صداقات لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر ، بل يعجلون المهر ، وإن أخروه فهو معروف فلما صار الناس يزوجون على المؤخر والمدة تطول ، صاروا يكتبون المؤخر ، وصار ذلك حجة فى إثبات الصداق وفى أنها زوجة له ” .
ولهذا التوثيق عدة منافع: منها إمكانية حفظ العقد المكتوب مدة طويلة وغير محدودة . ومنها سهولة الرجوع اليه عند النزاع مما لا يتوافر فى الشهود . ومن هذه المنافع أيضاً معرفة الأمة لتاريخها وتسلسل أجيالها وحفظ أجيالها لأنسابها . فالالتزام بتسجيل عقود الزواج وهو من باب السياسة الشرعية التى يمكن بناء عليها لولي الأمر تزويج رعيته بها لما يراه فى ذلك من مصالح . فالتوثيق لدى المأذون أو الموظف المختص نظام أوجبته اللوائح والقوانين التى وضعت بالمحاكم الشرعية ، خشية الجحود وحفظاً للحقوق وحذرت من مخالفته مما له من نتائج خطيرة من التكرار .
إن التصور الإسلامي من حيث المبدأ لا يعطي شكلاً من الأشكال لإتمام الزواج ، فعقد الزواج شأنه فى ذلك شأن سائر العقود يتم بمجرد الإيجاب والقبول ولا يتوقف وجوده وثبوته على كتابته ، بل تكفي النية الشخصية لإثباته سواء كان ذلك متعلقاً بذات العقد أو آثاره من مهر ونفقة وما إلى ذلك من حقوق والتزامات هذا من الزاوية الشرعية فقط .
غير أن هذة الحقيقة الشرعية لا تتعارض مع إحداث تنظيمات قانونية شكلية أو إدارية بقصد حماية الزوجة ، للمحافظة على مصالح العاقدين ، لكن لا تتعارض مع أى قانون تراه الدولة محققاً للمصلحة العامة ، وأخذاً بالأساليب الحديثة فى التدوين والتسجيل .
هذه الإجراءات القانونية المتعلقة بتسجيل عقد الزواج تسمى بالشروط القانونية لعقود الزواج فى الإسلام فهى شروط يضعها المشرع الوضعى لجلب مصلحة أو دفع مضرة أو مفسدة ، فالشرط القانوني ليس شرطاً أساسياً لإنفاذ العقد أو الزواج ، فهو شرط يترتب عليه أثر قانوني لا دخل له فى الحكم الشرعي الديني . ذلك لأن المشرع الوضعي البشري ليس من حقه حسب الأصول الإسلامية أن ينشىء حكماً شرعياً دينياً يحل حراماً أو يحرم حلالاً . والزواج العرفي هذا زواج صحيح ولكن للحاكم أن يعاقب على ترك التوثيق .
فهنا وهنا فقط ، إذا صدر أمر أو قانون من ولي الأمر الشرعي بإيجاب التوثيق تصبح الطاعة لأوامره واجبة شرعاً لقوله تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعو الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ سورة النساء الآية 25 ، وفى الحديث الصحيح أن السمع والطاعة حق على المرء المسلم أحب أم كره ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له ، ومن ثم إذا أُمر بالمعروف فعليه الطاعة .
وعلينا الآن أن نوضح الفروق الدقيقة بين الزواج العرفي والزواج السري : إن النكاح العرفي إذا تم يإيجاب وقبول من الزوجين وشهد عليه شاهدان على الأقل ، وجرى الإعلان عنه ، فيكون هو الزواج الشرعي الصحيح ، وإن لم يتم تسجيله فى الدوائر الرسمية ، ولم تصدر به وثيقة رسمية . أما العقد العرفي الذى تم بإيجاب وقبول بين الطرفين من غير ولي ولا شهود ولا إعلان ، فيكون هذا الزواج باطلاً بإجماع أهل العلم ولا يسمى زواجاً .
أما إذا تم عقد الزواج العرفي بإيجاب وقبول بين الطرفين : الطرف الأول والولب ، وشهد عليه شاهدان واتفقوا جميعاً على عدم إعلانه أى كتمانه وعدم إذاعته ، فهو إذن زواج باطل بالنسبة للإمام مالك لأنه زواج سري . وذهب أئمة المذاهب الثلاثة ونحن معهم فى ذلك ( الإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد) ، إلى صحة العقد الذى شهد عليه شاهدان وإن تواصى الجميع بكتمانه ، لأن السرية عندهم تزول بالإشهاد ، وأن إشهاد رجلين هو الحد الأدنى للإعلان الذى يصح به الزواج .
كيف يتم عقد الزواج العرفي والسري : صور إجراء هذه النوعية من العقود متعددة ومنها : كتابة عقد يتضمنه إقرار كل من الطرفين بأهليتهما للتعاقد والتصرف وخلوهما من كافة الموانع الشرعية ، ويدون فى هذا العقد بيانات الشهود ويقر الطرفين بوجود الإيجاب والقبول ، ويقول بأنه قد قبل الزواج من الزوجة المسماه بالعقد زواجاً شرعياً على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ونفس الشىء بالنسبة للزوجة ، وإعمالاً لقواعد الشريعة الإسلامية ، ويذكر فى التعاقد أن الطرفين قد اتفقا على مقدار الصداق ويقر الطرفين أنهما قبلا عند التعاقد بأحكامه وبما تقضى به الشريعة الإسلامية ، وما يترتب عليه من آثار وكافة البنود وأن لأولادهما جميع الحقوق الشرعية والقانونية مثلهما .
• أسباب إنتشار الزواج العرفي والسري :
1- القيود التى فرضتها قوانين الأحوال الشخصية على الزواج :
إن القانون فى حد ذاته يقف أحياناً عقبه أمام إتمام الكثير من حالات الزواج ، فيُضطر الطرفان الى اللجوء إلى الزواج العرفي أو السري للهروب من قيود القانون الوضعي . ومن تلك القيود : حق الزوجة فى طلب الطلاق للضرر الواقع عليها نتيجة زواج زوجها بزوجة ثانية ، وحق الزوجة الثانية فى طلب الطلاق لأنها لم تكن تعلم بوجود زوجة أولى له .
2- الصعوبات المادية التى تحيط بكثير من الشباب فى هذا الزمان :
من ذلك المغالاه فى المهور ، والمبالغة فى تكاليف الزواج بالإضافة إلى عائق الدراسة ومحاولة الإرواء الغريزى غير المشروع ، وايضاً قلة الأجور وانتشار البطالة وغلاء المعيشة وعدم توافر المسكن الملائم .
3- ضعف الوازع الديني .
4- رغبة أحد الطرفين أحياناً فى إخفاء الزواج : بسبب التفاوت فى المستوى الإجتماعي بينه وبين المرأة التى يريد الزواج منها .
5- رغبة الزوج أحياناً فى الزواج مرة أخرى من غير علم الزوجة الأولى : وذلك للحفاظ عليها وعلى أولادهما .
6- وجود العديد من الضرورات المادية التى تجعل البعض يقدم على الزواج العرفي : مثل حالات عدم الرغبة فى التنازل عن المعاش للزوج أو الزوجة التى توفى زوجها ولها ولد منه يرعاها ، فلا تتزوج بعده إلا عرفياً حتى يعفى الولد من آداء الخدمة العسكرية مثلاً بوصفه عائلها الوحيد وتستفيد هى من المعاش.
7- إعفاء الزواج العرفي من كثير من الإلتزامات التى يلزم بها الزواج الرسمي .
• موقف قوانين الأحوال الشخصية فى بعض الدول العربية من مسألة الزواج العرفي والسري :
لهذه التشريعات أربعة مواقف فى هذا الصد :: الموقف الأول : هى تلك التى تلزم الأطراف المتعاقدة بتسجيل العقد دون ذكر ثمة عقوبة فى حالة المخالفة لهذا الأمر . الموقف الثاني : هى تلك التى ترفض سماع الدعوى فى الزواج العرفي المقدمة إلى المحاكم فى حالة الإنكار . الموقف الثالث : هى تلك التى توجب عقوبة على مثل هذا النوع من الزواج ، ويتفاوت مقدار العقوبة من قانون لآخر . الموقف الرابع : هى تلك التى لا تثبت ولا تعترف بهذه النوعية من العقود وتعتبرها باطلة .
فمن النوع الأول : القوانين التى نصت على أنه لابد من توثيق عقد الزواج ، ولم ينص على أية عقوبة عند المخالفة ، قانون الأحوال الشخصية المغربي والذى نص فى المادة 43 منه على أنه لابد من تسجيل نص العقد بسجل الأنكحة لدى المحكمة ، وترسل نسخة منه إلى إدارة الأحوال المدنية .
ومن النوع الثانى : قوانين ألزمت المحاكم القضائية بعدم سماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا عند تقديم وثيقة رسمية ، وهذا ما استقر عليه المشرع المغربي أيضاً منذ عام 1931 ونصت عليه المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والمعدل بالقانون رقم 78 لعام 1951م فى مصر.
هذا وقد أفتت دار الإفتاء المصرية بتاريخ 1/2/1957 أن الفقرة الناصة على عدم سماع الدعوى عند إنكار دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا إذا كانت بوثيقة رسمية ، فإن هذه الفقرة لا تشترط الوثيقة الرسمية لصحة عقد الزواج وإنما هى فقط شرط سماع الدعوى .
ومن هذه القوانين أيضاً ، قانون الأحوال الشخصية الكويتي ، فلقد جاء فى المادة 92 منه أنه لا تُسمع عند الإنكار دعوى الزوجية إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية او سبق الإنكار أو الإقرار بالزوجية فى أوراق رسمية .
ومن النوع الثالث : الذى فرض عقوبة على الذين لا يسجلون عقد الزواج لدى الدوائر الرسمية فى الدولة قانون الأحوال الشخصية الأردني ، فلقد جاء فى المادة السابعة عشرة منه ما يلى : (يجب على الخاطب مراجعة القاضي أو نائبه لإجراء العقد ويجرى عقد الزواج من مأذون بموجب وثيقة رسمية ، وللقاضى بموجب وظيفته أن يتولى هذه الحالات الاستثنائية بنفسه ، بإذن من قاضي القضاة ، وإذا جرى الزواج بدون وثيقة رسمية يعاقب كل من العاقد والزوجين بالعقوبة المنصوص عليها فى قانون العقوبات الأردني وبغرامة على كل منهم لا تزيد على مائة دينار ، وكل مأذون لا يسجل العقد فى الوثيقة الرسمية مستوفياً الرسم يعاقب بالعقوبتين المشار اليهما فى الفقرة السابقة مع العزل من الوظيفة) .
ومن النوع الرابـع : قانون الأحوال الشخصية التونسي الذى ينص فى الفصل الرابع من الأحكام التى تتعلق بالزواج على أنه : لا يثبت الزواج إلا بحجة رسمية يضبطها قانون خاص .
•التدابير المقترحة للحد من ظاهرة الزواج العرفي والسري
حد من ظاهرة الزواج العرفي والسري :1- تقوية الوازع الديني لدى الشباب وتنمية التربية الدينية فى عقولهم فهو خير ضامن للحد من الفساد وفيه وسيلة لتهذيب الأخلاق .
2- إقتراح بتشديد العقوبة على من يقدم على هذا النوع من الزواج مثل : الحبس أو الغرامة أو التعويض للزوجة الأولى .
3- وثمة إقتراح بأن ينص القانون على بطلان هذا النوع من العقود الزوجية .
بيد أن جميع هذه التدابير غير عملية فضلاً عن مخالفتها للشريعة الإسلامية . ونرى أن الزواج العرفي أو حتى السري حلال شرعاً ويحسم العديد من المشكلات العملية ويقدم حلولاً واقعية فى بعض الحالات التى نعلمها جميعاً ، وأرى على خلاف جميع الآراء السابقة وجوب الإعتراف القانوني والنظامي بهذا الزواج فى جميع الأحوال .
• الاثار الاجتماعية للزواج العرفي والسري :
1- إن الإشكاليات القديمة والتى صاحبت عقود الزواج والتى لم تكن توثق من قبل كانت تمكن كل طرف من الطرفين إنكار الآخر ، وكذلك أيضاً إنكار الأولاد ، وقد يموت الشهود أو يتراجعون عن الشهادة فلا تستطيع الزوجة المطالبة بإثبات الزوجية عن طريق العقد العرفي أو السري .
2- أن الزواج العرفي لما له من سرية تضيع كثيراً من الحقوق وخاصة حقوق الزوجة والأولاد ، وقد لا تستطيع المرأة أن ترفع الأمر للقضاء لأن القضاء يعاقب أحياناً وقد لا يعاقب الزوجة فى أحيان أخرى .
واليوم تتحدث وسائل الإعلام عن الآثار المدمرة التى يحدثها الزواج العرفي فى المجتمعات الإسلامية التى ينتشر فيها مثل هذا النوع من الزواج ، فالمرأة التى تتزوج عرفياً من غير عقد رسمي موثق يضيع حقوقها من مؤخر المهر والنفقة والميراث وقد يضيع نسب أولادها وميراثهم ونفقاتهم جميعاً .
إن الزواج العرفي والسري والذى أطلق عليه زواج الطلبة ورجال الأعمال ظاهرة خطيرة منتشرة بين المراهقين ورجال الأعمال والفن والسياسة والرياضة على السواء . فهى ظاهرة خطيرة لا توجد نظم تحكمها ، ولقد انتشر هذا الزواج بين طلبة الجامعات والمدارس الثانوية والإعدادية أحياناً .
ويقرر مراسل جريدة الأسواق القاهرية أن العقد العرفى والسري يتم بأن تقول التلميذة للولد : زوجتك نفسي على سنه الله ورسوله ، فيقول الولد لها : وأنا قبلت ، ويقوم ولد آخر زميل لهما بكتابة العقد وشهادة زميلين آخرين لهما .
إن هذا النوع من الزواج يحدث بدون وجود القدرات المادية والمعنوية التى تؤهل الشباب والفتيات للاستقرار الإجتماعي ، فلا يفكرون فى أى شىء سوى إشباع الغرائز وهنا تحدث الأزمات الإجتماعية والمشاكل القانونية المترتبة على هذا الزواج الصبياني .