الروائي / محمد إسماعيل
من مجموعتي القصصية “مشاعر شتاء” الصادرة في 2018 عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع
كل عام تتحول القرية لمهرجان كبير بعد هدوء معتاد،يتوافد الناس من كل مكان قريب وبعيد للاحتفال بمولد الشيخ الولي”أبو مسلم”،عائلته منذ القدم يسكنون القرية ويحكمونها بما لهم من فضل قرابتهم لسيدنا الولي،على الرغم من أن غالب أهل القرية لا يعرف من هو الولي وما قصته؟
كل ما يتردد على ألسنتهم هو ما يحكيه أهله حكام القرية من العمدة وشيخ البلد، تخرج القصة من دوار العمدة لتشيع عن الولي فيهلل الفلاحون ويتبركون بوجود ضريحه بالقرية ويتفاخرون بضريحه ومولده كما كانت تتفاخر القبائل فى القدم بنبوغ شاعر فحل بها،نادى الشيخ خطاب ابنه صابر وقال له:
إسمع ياصابر، أنت منذ تخليت عن الزراعة بالأرض وانشغلت بورشة خالك بالمدينة وأنت مغضوب عليك، شيء واحد هو ما يجعلني أرضى عنك.
تلهف صابر لسماع الكفارة كي يخرج من منطقة غضب والده الذي يؤرقه،هو يعمل بالورشة مع خاله وتعلم صنعة”الديكو”، لكن والده دائما يشتكي عقوقه لهذا السبب،ويقول الأرض عِرض،وصابر ترك أرضه، حتى جعل الفلاحين ينعتون صابر بالعقوق !
: ما الذي يرضيك يا والدي؟
: الماكينة الجديدة التي اشتريتَها منذ عدة أيام لابد أن ترُش بها ضريح الولي”أبو مسلم” سأفتخر بذلك، وهذا يجعل الناس تنظر لي نظرة أفضل من نظرتهم بسبب تخليك عن الأرض،مفهوم يا صابر؟
: لكن ياوالدي أنت تعرف ليس لي في شغل الأولياء والموالد، حتى أنا لا أعرف من هذا الولي وقد أخبرني خالي بأنه ليس بالقرية وليٌ أصلا..
شتم الشيخ خطاب ولده صابر ولعنه ولعن خاله وتوعد بأنه سيطلق له أخته لو لم يكف عن تلك السفاهات، والتفت لولده بغضب وقال: هااا، ترش ضريح الولي باللون الأخضر؟
سأذهب لأخبر العمدة وشيخ البلد بافتخار بأن ابني صابر” الصنايعي” يتبرع برش ودهان الضريح على حسابه وبالماكينة الجديدة التي اشتراها بعد طول انتظار، سأخبر العمدة بأنك فعلت هذا تبركا بالولي وطلبا للسماح لما أشيع عنك بالقرية، مفهوم يا صابر؟، الناس أكلت راسنا من العتاب والكلام، هذا يجعلني أرضى عنك يا صابر، مفهوم يا ولدي!!
نظر صابر لوالده وهو يستجديه وفكر فى أنه سيسامحه ويشيع بالقرية مسامحة الشيخ خطاب لولده صابر،وبهذا يخرج من دائرة العقوق التي وضعه فيها أهل القرية، قال له: موافق يا والدي أخبر العمدة..
وفي نفسه قال: سأعتبر نفسي مجرد صنايعي يرش قبر أي أحد وانتهينا.. لا تبرك ولا خلافه..
وفي اليوم الذي جلب صابر فيه ماكينته على العربة الكارو يزفه الأطفال حتى وصل للضريح، وشيخ الخفر يفتح له الباب بتكليف من العمدة، وسارع الجيران بتوصيل الكهرباء وعرض ما بوسعهم المشاركة به في ذلك العمل جالب البركة، الكل متلهف،يشرأبون من بعيد لرؤية الضريح قبل أن يغلق الباب…، يضع صابر البوُية الخضراء في مسدس الرش ويشغل الماكينة لتطرب أذنه بصوت محركها لأول مرة وهو فرح مسرور، يفكر ويقول: ياااااه، أخيرا تحقق الحلم واشتريتها، سأرش بعد ذلك السيارات والجرارات والمقاطير وحتى الكارو والكلاب والقطط بالقرية، أنتهي فقط من تلك المهمة التي فرضت عليَ لأجل والدي الله يسامحه…
ضغط صابر على زر المسدس لتنطلق البوية كالبرق لتنشر اللون الأخضر اللامع على ظهر المقبرة، وقبل أن تغطي البوية عُشر مساحة سطح الضريح تعطلت الماكينة وانتشر الدخان بالمكان مع رائحة احتراق الموتور ، إنقلبت فرحة صابر الغامرة لحزن وتعاسة وأخذ يلعن في نفسه اللحظة التي وافق عليها على طلب والده،وتساءل في نفسه” هل هذه هي البركة يا عم الولي” وكان ينظر بغضب للضريح،وما كان منه سوى انتزع حذائه وهم يضرب الضريح في حالة هيستيريا وهو يقول ” أنا ابن كلب واستاهل”
زر الذهاب إلى الأعلى