بقلمى…محمد مغاورى
وَهَفا بالفؤادِ في سَــلْسَبِيــــــــــلِ ظَمَـــــأٌ للسَّــــوادِ من عَيْنِ شَمْسِ شَهِدَ الله لَمْ يَغِبْ عَنْ جفـــوني شَخْصُهُ ساعــــةً ولَمْ يَخْلُ حِسي
كانت تلك كلمات شاعرنا أحمد شوقى فى قصيدته “غربة وحنين” حينما كتبها فى منفاه فى أسبانيا والتى عبر بها عن حنينه إلى موطنه وإلى مكان عيشه فى مدينة المطرية أو عين شمس حينمًا كانوا مدينة ووحدة واحدة عُرفت قديمًا بأسم مدينة (أون) تلك المدينة الفرعونية المقدسة….ولنبدأ الحكاية..
ولد أحمد شوقي بحي الحنفي(الجمالية) بالقاهرة سنة 1868م لأب شركسي وأم من أصول يونانية، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في القصر، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح، فحفظ قدرًا من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة.
وبعد أن أنهى تعليمه بالمدرسة وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة الحقوق سنة 18855م، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها حديثًا، بعدئذٍ سافر إلى فرنسا على نفقة الخديوى توفيق، وقد حسمت تلك الرحلة الدراسية الأولى منطلقات شوقي الفكرية
والإبداعية، وحينما رجع التحق بقسم الترجمة لدى الخديوى عباس حلمى الثانى وحتى يكون قريبًا من قصر القبة اختار سكنًا له فى المطرية وأطلق عليه “كرمه ابن هانىء” نسبة للشاعر الأندلسى الحسن ابن هانىء”ابو نواس” والذى كان يرى شوقى انه كان مظلومًا حينما وصفوه “بالشاعر الماجن”،
استمر شوقى فى العمل بالقصر ونظراً لمواقفه وأشعاره الوطنية ضد الأستعمار الأنجليزى قام الأحتلال الإنجليزى بنفيه إلى أسبانيا سنة 1914م وهناك حيث كان يجلس على شاطىء المتوسط كتب أروع مؤلفاته الشعرية منها قصيدته الشعرية “غربة وحنين”، وحينما رجع من أسبانيا عام 1920م ، قام بأنشاء قصرًا له على ضفاف النيل بالجيزه وأطلق عليه أيضًا “كرمه ابن هانىء” حيث كان مغرما بالمكان فكان دائم القول” النيل من أمامى والأهرامات من خلفى” توفى احمد شوقى فى 14 أكتوبر عام م1932 بعد ان بايعه الشعراء العرب أميرًا لهم ، وقبطانًا لايبرح شراعه فى التنقل بين بحور الشعر العربى.
كان مرورى لمكان قصره بالمطرية وليد الصدفة ، زحام وتكدس بشرى وأبراج ترتفع لعنان السماء ، تضيق فيها وتقل الحرية والأستقرار النفسى لساكنيها، برج كبير كُتب عليه”برج أمير الشعراء احمد بك شوقى” فى شارع عرضه حوالى ستة أمتار، تتسلل منه العربات والتكاتك والمارة.
كان من الأحرى زيارة أخرى لعلى التمس بين هذه الطرقات معلومة أو حكاية تدلنى على ماتبقى من القصر.
عم عاطف من أقدم سكان المكان، دلنى عليه أحد أصحاب المحلات فى الشارع ، سئلته عما جئت من أجله ، فأخبرنى أن على ابن أحمد شوقى باع أرض القصر منذ الستينيات وأشار بيديه على المساحة التى كان يشغلها القصر، وقد قام المشترون بتقسيم تلك الأرض حيث اقيمت عليها بيوت سكنية وحديثًا أبراجًا عاتية .
لم يكن المخططون لهذه التقسيمات وأصحاب الأبراج العالية تمجيدًا لشوقى بأن يكتبوا أسمه على أبراجهم “أميرًا للشعراء” بل هم من أرادوا أن يكونوا أمراء فى زمانً لايعرف إلا أصحاب المال كأمراء فيه.
وقد يتساءل القارىء ..ماذا تبقى إذن من القصر ؟؟!!
فى اعتقادى الشخصى بأنه لو عاد شوقى وزار مكان قصره فلن يجد إلا الغربة والحنين غربة لمكان تغير كثيرًا واختلف عما كان يسكنه وحنين إلى زمانً لن يعود حيث البساطة والرقى..وسيتفاجىء بزمان لن يتمنى أن يعيش فيه .
من يبحث عن ذلك القصر هو من يبحث عن ذلك الزمان الذى مضى وما عليه سوى أن يكون أميرًا على قلبه ويوثق زمام ضميره ،، وإلا فليحتفظ بغربته وحنينه.