من الحكايات الشعبية ليهود مصر القرائين _ الحلقة السادسة |
كتب .د . أحمد زكريا
-6-
هكذا سئل الأخوين “أشفور” و”أدمون” عن منزل الطبيب باروخ؛ ولم يكن من الصعب الإهتداء إليه فلقد كان الرجل من أشهر رجال المدينة، قرعوا البوابة وعندما فتحت لهم الخادمه أخبرها بأنهما إخوة باروخ وأنه قادم خلفهما، فطلبت منهم الاستراحة فى صحن الدار،
فجلسا على حافة النافورة التى تتوسط ذلك الصحن، حيث المياة صافية نقية تتراقص فيها سمكات حمراء لم يرى “أدمون” لها مثيلا فى النيل من قبل، لم يكن باروخ يسكن فى منزلًا بل قصرًا عظيما صنع من الرخام الابيض والحجارة المصقولة وقد اكتست جدرانه بزخارف ملونة لا يشابهها شيىء من بيوت الفسطاط ؛ وكانت الجوارى يملأن تلك الدار بضحكات ومرح تاتى أصواتهن من خلف الجدران فجعلته اشبه بحديقة عامرة بالعصافير الغريبة المختبئة فوق الاغصان.
قال أشفور(الأعمى): “يبدوا أن أخانا باروخ يسكن فى قصر أعظم من معبد بن عزرا!”
أجابه “أدمون”(الأرعش): صه أيها الأعمى.. تتحدث عن بن عزرا الفقير بل قل قصر هيرودوس أو هيكل الملك سليمان!!”، ثم جاءت خادمة فوضعت عناقيد العنب فى طبقين من مرمر أمام الضيفان، وأخرى سارعت تصب شرابًا حلو الطعم لم يعرفا له اسمًا. هكذا فعلت الخادمات ما أمرت به صاحبة الدار زوجة باروخ والتى ظلت تراقبهما من الشرفة (المشربية) طوال الوقت، انتظرت حتى شبعا فاستترت بوشاح أسود من المخمل الدمشقى وهبطت إلى ضيفا الدار.
“يا مرحبًا بإخوة زوجى.. لقد استبقتمانا بهذه الزيارة، قد كنا نعد حالنا لنزوركم فى الفسطاط”.. قالت هذة الكلمات وهى تسحب كرسى صغير وضعته قبالة الأخوين مباشرة فى غير حياء عرف عن النساء القرائيات، فارتبكا الأخوان وشعرا أن من تحدثهما هى “الملكة هيلانة زوجة هيرودس” أو “بلقيس زوجة الملك سليمان”!!
بالطبع جئتما لزيارة أخيكما”باروخ” أتفهم هذا ولكنكما تحرمانة من شرف الأخ الأكبر اذ تسبقانه فى الزيارة…لا داعى للقلق أنا أتفهم استعجالكما فى الزيارة؛ فأنتما تسألان عن ميراثكما، تركتكما فيما ترك اباكما هذا حق وهو شرع الله وما من عبد صالح يستحى من وصايا الرب، قالت هذه الكلمات وهى تترجل واقفة لتكشف عن يدها البيضاء التى اختفت تحت الثوب الأسود و فى راحتها شاهد أدمون دينارين من الذهب الخالص..
“تفضلوا.. نحن أهل وهذا شرع الله وما من أحد ليستحى منه”، ولكم كانت فرحة الفقيران كبيرة وعارمة حتى أنهما لم ينتبها أن ست الدار كانت تكنسهما من الصحن تدفع بهما نحو البوابة وهى تودّعهما لينتظرا زيارة “باروخ” لهما فى الفسطاط، كما أنهما لم يشعرا بأى شيى من حزن عندما صكّت السيدة الباب من خلفهما ولا عندما أغلقت المزلاج من الداخل، بل هرولا مسرعان فرحان نحو الفسطاط وهما يحملان ميراث والديهما، لقد أوفّى باروخ بالوعد وأعاد دينارًا لكل منهما، هذان الدينار سيكفياهما المذلة والسؤال فلربما اشتروا به سمنًا وباعوه ربما قطيع من غنم.. من يدرى المهم أن أى منهما لم يعد شحاذًا ثانيةً!
وهكذا عاد العالم لينشد ترانيم عذبة أصواتها رقيقة لا يسمعها إلا “أشفور” و”أدمون”، لكأن مزمارًا سحريًا مثبتًا فوق صخرة سيناء ينشد ألحانًا سحرية طوال الوقت والآن فقط صار بإمكان الأعمى والأكتع أن يشاركا خلق الله فى الاستماع لها، حتى صرخ الحاخام فى وجهيهما بعدما قصّا عليه سبب فرحتيهما: “أيها الحمقى قد سرقتكما إبنة الزانية!! وأنتم أيضًا ستكونون أولاد زنى ولستما من صبط يهود إن رضيتموا بهذه القسمة الجاحدة!!..إن الله عدل واليهودى الذى يرضى الظلم ليس من بنى إسرائيل!”