بقلم الدكتور : محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب باريس
اشترى صاحبنا تسجيلاً صغيراً , من أحد المحلات في مؤخرة شارع النبي دنيال من ناحية محطة الرمل , ودفعه في حقيبته السمسونايت التي كانت من مظاهر الأبهة والفخامة في تلك الحقبة ,
وحينما بدأت المحاضرة سجلها كلها , ابتسمت له مدام أبو عمّار وقالت له برافو , وعندما وصل إلى منزله أعتكف على سماع تلك المحاضرات , وكان صوته يمزق سكون الليل عندما يمط شفتيه محاولاً النطق بطريقة صحيحة , كان يتحدى نفسه ويتحدى الجميع ليتعلم الفرنسية .
كان صاحبنا حريص كل الحرص على حضور كل أنشطة المركز الثقافي الفرنسي بالإسكندرية ولاسيما المعارض والمسرحيات والندوات ويحرص على مشاهدة الأفلام الفرنسية التي تعرّف من خلالها على نمط الحياة الفرنسية بل جغرافيا فرنسا وتاريخها , بل عاش في باريس قبل أن يصل إليها , بدأ التعرف على الأحياء والمعالم والشوارع من خلال متابعة النشاط والحراك الثقافي الغني للمركز , وبدأ تكوين صداقات جديدة مع الفرنسيين وغيرهم من الأجانب المقيمين في عروس البحر المتوسط الإسكندرية .
وتدور رحى الأيام , وصاحبنا يجتاز الاختبارات وينتقل من مستوى إلى مستوى , لقد أحبّ اللغة الفرنسية , وهي بدورها أحبته , حتى وصل بمفرده بعد نحو عامين والنصف إلى التقدم لامتحان القبول لجامعة باريس , بعد الحصول على شهادة المستوى السابع وكان الوحيد الذي واصل الكفاح حتى النهاية .
التقت به السيدة أندريه أبو عمّار التى علّمته الفرنسية والتي لم تنطق كلمة عربية واحدة , في حفل من حفلات صيف الإسكندرية , همست في أذنه بالعربية :
مبروك أنت دوختني ولكن برافو …..!!
كانت تلك الكلمات بمثابة وسام على صدره ولاسيما وهو يسمعها وهي تتحدث إليه بالعربية التي كان يظن أنها لا تعرف لها سبيلاً .
الفرنسيون يعشقون عملهم ويخلصون له مدى الحياة .
قرأ صاحبنا إعلان عن فتح باب القبول للجامعات الفرنسية , ومنها جامعة السوربون لدراسة الأدب والتاريخ والحضارة الفرنسية , وأخذت عجلات القطار الذي ؟ استقله من الإسكندرية إلى القاهرة تأكل القضبان الحديدية من شدة السرعة , ووصل إلى مكتب المستشار الثقافي الفرنسي بالقاهرة ليفوز بدوسيه الالتحاق بجامعة باريس .
عليه أن يُترجم شهاداته وأوراقه , بل عليه إجراء الكشف الطبي , وتوثيق تلك الأوراق من الخارجية المصرية والقنصلية الفرنسية بالإسكندرية واستخراج جواز السفر وصحيفة الحالة الجنائية .
عليه أن يتعلم ثقافة جديدة وهي ثقافة التعامل مع الجهات الحكومية لاستخراج الأوراق وتصديقها ولاسيما بخاتم النسر , وشهادة حُسن سير وسلوك من اثنين موظفين مرتبهم لا يقل عن 45 جنيه , كل جنيه ينطح جنيه
وبعد هذا العناء لابد من تقديم طلب الحصول على تأشيرة بعد مقابلة سين وجيم وانتظار مدة شهر
شهدت تلك الحقبة التاريخية في حياة صاحبنا الذي بذل العزم لتعلم الفرنسية , و المضي بخطوات ثابتة لتحقيق الحلم , في الوقت ذاته شهدت مصروالعالم أجمع أحداثا تاريخية مازالت تداعب رئة التاريخ الإنساني
في التاسع من ذي الحجة 1397هـ الموافق 19 نوفمبر 1977
حينما كانت ملايين الأفئدة من المسلمين تتطلع إلى جبل عرفات حيث يوم الحج الأكبر , كانت هناك أيضاً افئدة أخرى من الملايين تتطلع لمطار بن جوريون في تل أبيب بإسرائيل
لحظات وتحط طائرة الرئيس الراحل محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام , لم يصدق قادة العالم ولا قادة إسرائيل أن السادات كان جاداً حينما أعلن عن رغبته لزيارة إسرائيل وإلقاء خطاب في الكنيست الإسرائيلي ,
والدعوة لسلام شامل وعادل في المنطقة
مشهد مثير للجدل لا نستطيع أن نفسره من زاوية واحدة , بل من عدة زوايا قد تتجاذب وربما تتنافر , مشهد ربما يطرح هذا السؤال هل أعداء الأمس يصبحون أصدقاء اليوم والغد . مشهد في قمة الدراما العالمية , السادات ينتهج مسلكاً لم ينتهجه أحد من قبله في العالم , لست أدري هل سأل السادات نفسه ربما يعود أو لايعود من تلك الرحلة
. بجوار بيجين وقف موشي ديان ، وأرييل شارون ، وإسحق شامير رئيس الكنيست ، وعلى يساره وقفت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة التي عبرت عن دهشتها الشديدة حين رأت السادات قائلة “هذا شيء لا يصدق”.
كانت البداية من خطاب السادات أمام مجلس الشعب في افتتاح دورته في 9 نوفمبر 1977، الذي قال فيه “إنني أعُلن أمامكم وأمام العالم إنني على استعداد للذهاب حتى آخر العالم من أجل تحقيق السلام.. بل إننى أُعلن أمامكم وسوف يدهشون في إسرائيل وهم يسمعون ذلك.. إنني على استعداد للذهاب إلى القدس ومخاطبة الإسرائيليين في عقر دارهم في الكنيست الذي يضم نواب شعبهم من أجل تحقيق السلام”.
وقامت الدنيا ولم تقعد.. وأصابت الصدمة والذهول البعض ، ولم يصدق مناحم بيجن ما سمعه ، وقرر باسم الحكومة الإسرائيلية إرسال دعوة للسادات عن طريق السفير الأمريكي.
ذلك الخطاب الذي حضره ياسر عرفات وقام مصفقا بكلتا يديه عند سماعه عبارة السادات ورصدته كاميرات التلفزيون مبتسما وفرحا ، وفي اليوم التالي أرسل الكنيست دعوته إلى السادات للحضور ، وأرسل عرفات لعناته إلى مصر والسادات
تغيرت صورة مصر على مستوى العالم , في الوقت الذي حاول صاحبنا أن يغير صورة تفكيره بما التمسه من فكر جديد بعد أن بدأ يقرأ لكبار كتاب فرنسا
وسرعان ما يصل الاشتراكيين للحكم في فرنسا , ويتولى الاشتراكي فرانسوا ميتران رئاسة فرنسا
وتقدم صاحبنا للحصول على تأشيرة
وبعد المقابلة حصل صاحبنا على تأشيرة فرنسا بعد أن دفع ستة جنيهات عدّاً ونقداً
كيف أستعد صاحبنا للسفر إلى باريس ؟
هذا ما سوف نعرفه في الحلقة القادمة
يوميات مهاجر في بلاد الجن والملائكة الحلقة ٧