كتبت جيهان عوض
لم تُسلم المرأة والزوجة بالتحديد من التغيرات التي تعتري المجتمع من آنٍ لآخر، فقد كانت تبهرها وردة، تداعب خجلها نظرة، تغريها كلمة، فتغير الحال و تحول أوج المشاعر إلى صخب، و حمرة الوجه إلى نظرات تحدي، و ما كان يكمن في الصدر أصبح يطفو و يعلن عن تمرده حتى كاد ينفجر في وجه الحبيب دون اكتراث للعقبات، خرجت من بوتقة سكنها إلى عالم المغريات، عالم لا يحكمه إلا الهوى يسير بلا هوادة، أصبحت نسخة عصرية للزوجة التي تمتلك من الأجهزة الإليكترونية ما كانت تمتلكها أسلافها، فلديها حساب بالفيس بوك، حساب تويتر، حساب واتس آب وأيضا تليجرام وغيرهم من شبكات التواصل الإجتماعي التي جعلت العالم بين يديها.
كلما نظرت لأمي تذكرت ماضينا معًا، أب وأم وخمسة أولاد، يتملكني العجب وترهقني الحيرة، كيف لأمي أن تدير بيت به ستة أفراد غيرها؟
مسئولة عن إطعام وتنظيف وإعادة ترتيب ما نحدثه من فوضى دون ملل، دون كلل، لم تطلب مني يومًا تنظيف
حجرتي! والعجيب أنها كانت تتمتع بالسكينة والهدوء، لم أسمع صراخها يومًا، لم تكن بالجرأة لتجادل أبي بأي قرار، صورة مكررة من أمينة المطيعة الخاضعة التي يعشقها الرجل الشرقي، أقصى ما كانت تتوق إليه نزهة عائلية هادئة مرة واحدة بالسنة!
أتساءل ما هو السر وراء تلك السكينة التي تقبع قلب أمي وتُرسم على وجهها البشاشة؟ فمازالت أمي تتمتع بالهدوء والسلام النفسي، والجمال، ونضارة الوجه، رغم كبر سنها، بيد أن الشحوب تسلل إلى وجهي وأرداه باهتًا، أتذكر عندما كانت تهدهدني في طفولتي، تربت على كتفي وتغني لي أو تحكي قصة، الآن وبعد أن أصبحت أمًا لا أطيق صراخ صغيري فأسرع بإعطائه التابلت أو الآيباد ليلهيه ويكف عن إزعاجي، هكذا أصبح حالي، بل حال معظم الزوجات و الأمهات!
يقول شكسبير: “المرأة كالزهرة إذا اقتلعت من مكانها تتوقف عن الحياة” فالمرأة إن لم تجد من يعتني بها ويرويها من الإهتمام والحب فسوف تنسحب من حياتك وتنزوي بعيداً عنك، بل بعيداً جداً عن مَن ينقص مِن شعورها بأهميتها، فالمرأة جُبلت على الإهتمام سواء كانت بنت أو جَده، ولكن اختلفت معايير الإهتمام لديها فما كان ليرضيها من قبل أمسى هين أمام المغريات التي غزت عالمنا الإفتراضي، فابتعدت بهيمنتها من واقع رتيب إلى واقع افتراضي مبهر، فها هي صديقتها تنشر صورتها هي وزوجها والهدايا التي يغدقها بها من حين لآخر، وأخرى تحاكيها من جزر المالديف مع حبيبها، أما تلك فلا تتوانى في إظهار ترفها وبذخ معيشتها، بعد أن كانت الزوجة سالفًا لا ترى ما وراء نافذة حجرتها! ليس ذاك فحسب فقد اختلفت المفاهيم لديها وتبدلت، فالطاعة أصبحت خنوعًا، والصبر أصبح مهانةً، والخضوع بالقول أصبح ضعفًا، ألا تبًا!
فكلما إتسعت عينا المرأة ضاق صدرها، قال تعالى: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُّنيا﴾.
قديمًا عندما كان يتسرب الحزن إلى الزوجة بسبب المشاكل الحياتية المعتادة، تُسرع لتشكي معضلتها إلى والدتها أو صديقتها المقربة، فتطيب خاطرها وتثلج صدرها، فتتلاشى كل علامات الحزن، وتنطوي كصفحة منسية في حياتها، أو ربما آثرت الصمت وضمرت الحزن بقلبها، أما الآن فاتسعت الدوائر وتهدمت الحوائط، فما إن تستشعر ببعض المشكلات العارضة، تسرع بتغيير الحالة بجميع شبكات التواصل الإجتماعي، ولا مانع من الوشاية بشريكها على صفحات الأزرق وبعض من التراشق والتوبيخ كوسيلة لتفريغ شحنة الغضب لديها! حتى الحزن وشم بالعَلن بعد أن كان مكنونا بين الخلجات!
“لو أنّ شيئًا يدوم على حال فلمَ تتعاقب الفصول؟” هكذا قال نجيب محفوظ. فالمرأة سالفًا كانت لا ترضى بشيء عوضًا عن الرجل، الآن وبعد أن خاضت التجارب ونزلت ساحة الحياة، وتقلدت المناصب السياسية، وشغلت أماكن لا يديرها إلا الرجال الأقوياء، فأصبحت بالقوة التي تغنيها عن الرجل وقوامته.
“لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة” هذه مقولة لغسان كنفاني، لكننا في العصر الحالي نرى جميع الكواكب داخل الغرفة المغلقة! عندما أصبح العالم بين أيدينا في جهاز بحجم الكف أو أقل، فبضغطة زر نلف عالم آخر غير عالمنا، عالم اخترناه
بمحض إرادتنا بل سعينا إليه وزحفنا إليه زحفا، فالزوجة تجد ملاذها وما تتمناه في واقعها الذي عجزت عن فِعله، تهرب من الحياة الرتيبة المملة، تتحسس الأخبار، والزوج كفّ عن شكوى ثرثرتها، فإن أسوأ تعذيب في العالم هو الشخص المصر على الكلام بينما أنت مثقل بالهموم، ترغب في أن تبقى صامتا وأن تصغي لأفكارك هكذا قال أحمد خالد توفيق، وهكذا حال الرجل.
عبثًا يحركنا العالم الإفتراضي حيث أنه أصبح أكثر واقعية من عالمنا المزيف! بيد أن الزيف كل الزيف ينطوي بين ثنايا صفحاته، فلا يغرك سعيد، ولا يبهرك متفائل، ولا يبكيك حزين، منساقين نحن إليه حد التطرف، مغلولة أعناقنا بشبكاته العنكبوتية، و تحت وطأة براثنه.
ليتنا نستطيع التملص من هذا العالم ونلزم دارنا، أو نقنن استخدامه، ننزع سمه ونشرب عسله، ولا ننساق له فنكون أشبه بعَرْد يحمل أسفارًا، فسنجد حينها أن المرأة المتمردة أكثر إتزانًا وتعقلاً، والرجل أكثر حرصًا على أهل بيته! قال رسول الله صل الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس الصحة، والفراغ” صدق رسول الله صل الله عليه وسلم