كتب – سامح عبده
قال الناقد الكبير د. صلاح فضل: “فى روايتها 104 القاهرة والصادرة عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع، تروى الكاتبة ضحى عاصى، ذات النشأة الدينية فى بيت والدها المجاهد اليسارى، والتربية العلمية فى جامعة موسكو، والثقافة الشعبية فى أكاديمية الفنون، والنشاط الثقافى المتنوع فى مبادرات المجتمع المدنى، تروى عوالم مجموعة من النماذج المثيرة، كأنها تكتب فى دفتر أحوال النساء فى مصر ما لا تتضمنه عشرات الأعمال النسوية المعروفة، لأنه يكشف بجسارة عن عقلهن الباطن وقوتهن الجبارة وجسدهن الموجع وسقوط بعضهن المفزع. إنه يهتك تلك القشرة الزائفة الرقيقة التى تغلف حياة البشر ليصل إلى قاع الوعى بالذات وبالحياة، بالأساطير والأحلام، بالطقوس والنفوس. وربما يتراءى لقارئ رواية «104 القاهرة» التى لا يدرك دلالة عنوانها سوى فى السطور الأخيرة أنه خيال كاتبة قصة قصيرة، تورد حكايات متشابكة بنظام التداعى الحر، فتسقط منها البؤرة الجامعة التى كانت تسمى الحبكة، وتترك مصائر الشخصيات معلقة فى فضاء السرد وجديلة العلاقات والعواطف المفتوحة المجروحة، دون أن تخيط الشبكة فى بنية متلاحمة، مما يقع فيه كثير من القصاصين الذين ينتقلون دون دربة إلى مجال السرد الروائى العريض، غير مدركين لشروطه النوعية وأهمها تجميع التنسيقات التى تحول الحادثة إلى حكاية. لكننا لا نلبث – إذا صبرنا حتى النهاية – أن نفاجأ بأنها تدخر لنا فى المشهد الختامى – وهو الذى تضعه فى الافتتاحية دون أن ندرك – العقدة الجامعة للأطراف كلها، ففى سرادق العزاء، حيث يلتقى الأشتات والأضداد، كما يتجمعون فى قبر المعرى القائل: «رب لحد قد صار لحداً مراراً.. ضاحكاً من تزاحم الأضداد».
وأضاف: “غير أن هذا اللحد فى الرواية ليس سوى شخصية «انشراح» الفتاة شبه الأمية التى تودعها الكاتبة سر الحياة والموت معاً، فقد ظلت طيلة حياتها الخصبة العريضة زوجة وفية للأسطى حسن الجالس الآن بذهول فى سرادق عزائها، يتذكر جده الكبير الشيخ حسن طوبار الذى كان زعيم المقاومة المصرية للفرنسيين إبان حملتهم الشهيرة، والذى تصدر خبر وفاته عناوين إحدى الجرائد الفرنسية وقتها لخطورته، مع أن مصير الحفيد قد أصبح مجرد أسطى تنجيد فى القاهرة، حتى إذا ما ذكر تاريخ نضال جده، عاجله أحد رفاقه المشاغبين قائلاً: «مقاومة إيه يا حسن، أمال عينيك الخضراء وشعرك الأصفر والبياض بتاع المنصورة دا منين؟ إنت جاى من نطة فرنساوى! فيجيبه بانفعال: أصلك جاهل، لا تعرف أن الحملة الفرنسية كان فيها نساء وبنات يتم أسرهن سبايا بعد المعارك يأخذهن المقاومون وينجبن لهم»، فنجد لأول مرة تبريراً معقولاً لجمال أهل المنصورة اللافت حتى اليوم. أما المرحومة انشراح التى تملأ بحيويتها وسذاجتها وأسرارها صفحات الرواية بأكملها، فقد عشقت فى صباها جارها إبراهيم فأخرجها من عالم الأمية والجهل وعرفت من أحاديثه ورفاقه من هو لوركا وجلال الدين الرومى وابن عربى وسارتر والحكيم، وأدركت أن هناك خارج حوارى درب شغلان دنيا عريضة، أصرّت أن تصحبه إلى الجامعة طيلة سنوات دراسته، لا لتحميه من زميلاته بل لتشاركه فى تفاصيل حياته، وعندما سافر فى بعثة إلى فرنسا عاشت فى انتظاره، لم يعد لها أصدقاء سوى الست فاطمة النبوية والكتب التى تركها فى عهدتها. تتوطد أواصر الصداقة بينها وبين «إيرين» بنت الست كاترين الخياطة اليونانية، فتحكى لها زميلتها قصص الإسكندر الأكبر وكليوباترا وفينوس وفورتونا ربة الحياة المتحكمة بالأقدار والقادرة على إيقاف عجلتها وتحويل البهجة إلى أحزان. شاركتها مشاعر الحب على صوت ألفيس بريسلى والبيتلز ورقصت معها رقصة زوربا على صوت داليدا، سألتها عن الجنس فأجابتها بأنه الطبيعة، وعن العيب فقالت إنه إعطاء الجسد لمن لا نرغب فيهم تحت أى مسمى حتى لو كان الزوج، أصبحت انشراح بهذا التأثير الحميم فتاة ذات طقوس خاصة، مثل القمر لها مدها وجزرها، تصوم عن الكلام وتعتكف وتتعرض لنوبات من الإغماء حتى يظنوا أنها قد ماتت، ثم لا تلبث أن تنهض مثل الفرس، قالوا عنها انشراح أم السبع أرواح.”
موضحًا أن : “الراوية والرؤية:
تراوح ضحى عاصى بين طريقتين فى السرد دون وعى منها غالباً، فهى تبدأ بالحكى بضمير الغائب ثم تنزلق بسهولة فائقة لتسلم بطلتها ناصية الكلام دون شعور بالانتقال. فتجمع بين الأسلوب القديم والحديث، وقد حاولت تبرير ذلك بإشارة فى السياق بأنها تنقل من مذكرات انشراح التى أعطتها لغادة قبل رحيلها، وغادة هذه أقرب الشخصيات لرؤية الكاتبة لا لشخصيتها، فليس من شأن النقد أن يفتش عن ضمير الكتاب ولا أن يتجسس على حياتهم، خاصة لو كن كاتبات ينزع القراء للخلط بينهن وبين بطلاتهن، على أن انشراح العجائبية تروى حلماً غريباً تقوم فيه بإجراء عملية جراحية لابن أختها الذى أصيب بأورام المخ وتدهورت حالته، ترى أنها استخدمت معدات جراحية دقيقة واستيقظت وهى على يقين من أنه قد شفى. وقام الولد بالفعل سليماً معافى دون أى مرض، تقول: «أتانى صديقى الزائر الليلى بعدها وقال لى: دكتورة انشراح، كانت العملية أكثر من رائعة.. سوف تقدرين على شفاء المرضى ولن يتم هذا إلا إذا توفرت لك الإرادة لمساعدتهم.. أنا لست طبيبة ولا أملك العلم الذى يمكننى من ذلك، فى الصباح أخذت أسخر فى نفسى من تخاريفى الليلية، كنت نسيت ما فعلته معى جدتى نرجس فى طقس غريب عندما أعطتنى ما سمته العهد ولطخت جسدى بدم الدجاجة التى ذبحتها بيدى، لم أفطن لمغزى ذلك»، ولكى لا يصبح ذلك كله من قبيل خرافات النساء الغالبة عليهن لطول العهد بالجهل وملازمة البيت والاستغراق فى الحيوات الباطنية ومعايشة الأشباح ومحاربتها، فإن الراوية تدعى أن الزائر الليلى – وكأنه صوت العقل – قد أكد لها أنها تنتمى بقواها الغيبية إلى مؤسسة تدعى مؤسسة «ڤيريل» السرية التى تكونت فى برلين عام 1933، حيث «ڤيريل» تعنى الطاقة الكونية الهائلة التى تشبع وتشع من بعض الكائنات، وحسب معتقدات تلك الحركة فإن من يملك «ڤيريل» يصبح أهلاً لسيادة جسده والناس والعالم من حوله»، وهكذا تصبح الأحلام مجالاً عريضاً لادعاءات القوى الغيبية، فبعد ڤيريل هذا يمتلكها أيضاً ما تسميه روح «سوماتى» المكلفة بإنقاذ العالم من الدمار. فإذا ما تصورت أن هذه الأوهام سرعان ما تمتزج بمخزونها الشعبى عن عوالم الجان وتلبسه المشهور بالإنسان، أصر الزائر الليلى على أن يشرح لها الفرق بين الخرافة والعلم ليقنعها بأن هذه القوى إنما هى طاقة كونية يملكها من يحبون الخير ويسعدون البشرية بإرادتهم الجبارة، على أن التفاصيل الدقيقة لعوالم النساء الحميمة تتجلى فى حكايات عدد من قريبات وصديقات انشراح يقعن ضحايا لشرور الرجال وخستهم ومكائد بعضهن أيضاً، وتتراءى خلالها بعض الحماقات الطريفة، مثل إصرار ليلى زوجة سيد شقيق انشراح على إجهاض زوجة ابنها بالإكراه عند وفاة والد الزوج حتى لا تأتى بطفل يرث جده، مع أن هذا لا يغير من خارطة الميراث شيئاً، ومثل التحول العجيب الذى أصاب الضحية عقب ذلك، إذ تنخرط فى حياة الاستهتار والابتذال وبيع الجسد انتقاماً من زوجها الضعيف الذى طلقها رضوخاً لمكائد أمه، وكيف أن ما ساعدها على هذا السلوك إنما هو وصفة سحرية طبقتها انشراح على الكلاب الضالة تجعل الرجال يتهافتون على جسدها مثل الكلاب المسعورة.
ومثل ما تفعله ناهد ذات صباح عندما فاض بها الكيل لإهمال زوجها لها على ثرائها وجمالها، إذ تجلس عارية إلا من ورقة التوت فى بهو قصرها وتستدعى الخدم والسائق لتلقى أوامرها اليومية، وأمام ذهولهم جميعاً تصل انشراح فتغطى جسدها وهى تصرخ مترنحة: «أنا عملت إيه يعنى. كشفت جسمى، هو مثل الأثاث لا يحرك أحداً ولا يهتم به زوجى» فتدرك الصديقة أزمتها الداخلية، وتعالج الموقف أمام خدم المنزل بأن السيدة قد لبسها جن أوروبى، وتطلق البخور والهمهمات لصرفه. تتكاثر الأحداث والمصائر لتصل إلى ذروتها فى الليلة التى استشعرت فيها انشراح قرب نهايتها بعد أن امتلأت عاطفتها بحب ينقذها من خواء الحياة ورفضت الاستجابة له، توصى صديقاتها بأن العربة التى ستحملها إلى مقرها الأخير سيكون مكتوباً عليها «تحت الطلب 104 القاهرة» كما رأت فى الحلم، وفى سرادق عزائها يلتقى علية القوم ممن مروا فى حياتها بأهل الطبقة الدنيا التى عاشت عمرها بينهم، وتلتئم حكايات النساء وأقدارهن ومصائرهن العجيبة فى بؤرة جامعة، ليلتحم نسيج أكثر الروايات النسوية احتشاداً بالغرائب الممتزجة بالعقائد الشعبية والممارسات السحرية ومحاولات التبرير العلمى فى عمل إبداعى مثير للاهتمام وجدير بالقراءة.”