أشقى ما يكونُ العقلُ ، عندما يُراقِبُ ما تفعلُه القلوب
وأكثر ما يكونُ القلمُ بَلادةً عندما يُحاولُ ، عبرَ مصطلحاتِ الكلام، أن يكتُبَ هيولى حلُم،
وأن يُجسِّدَ خفقانَ قلبٍ أو حشرجَةَ روح
هكذا أحسستُ عندما حدّثتني النفسُ بالكتابةِ عن قِصَّةِ الكاتبة نرجس عمران( وغادرَ القمر).
غادرتُ مصطلحاتِ اللغة ، وتعسّفَ قوالبَ النقدِ النمطيةَ وغطرسةَ الوعّاظ ، ورحتُ أستسلمُ لرغبتي وهيَ تشُدّني صوبَ حُـلمِ الكاتبةِ وهي تمني من يدي التي هيَ من جهةِ القلب، ومن ثـمَّ
تُصوِّبُ عينيَّ صوبَ فضاءِ ذلكَ الحلمِ الذي لا أدري أنه حلمٌ أو حُلُمٌ في حقيقة..!
هل يوجدُ مكانٌ آخرُ يمكن أن تتألَّقَ فيه الرومنسيةُ ويتجلّى إبداعُ الخَلقِ وأحلامُ الأنبياءِ أجملُ من هذا المكان؟
أوَليس النبي إبراهيم ، كانَ يبحثُ عن إلههٍ وهو يتأملُ ويستنطقُ الشمسَ والقمر ؟
أَوَليستْ رحلتُه الطويلة صوبَ اللهِ قد بدأتْ بِحلم؟
…………….ثُمّ أليسَ ما رآهُ في الحُلمِ كاد أن يدفعه لقتلِ أُبوَّته؟
وغير بعيدٍ عن إبراهيم .. أوَليسَ بالحُلمِ أذعنَتِ الشمسُ والنجومُ ، وامتثلَ القمر لأمرِ السّجودِ ليوسفَ النبيّ؟
الأشياء العظيمةُ تبدأُ بالأحلام ، والوجودُ باسرهِ ربما كان حُلمًا ..من يدري؟
لم تــتـحـيـرْ كاتبتُنا كثيرًا في حلمها ، ولم تكترثْ بِـحَـيْـرَتِـنا ونحنُ نحاول تأويله..فهي لا تهدف إلى تفسير العالم وتحديدِ الوجود.. إنّـما هي تريدُ أن تعيشَ تجربةَ الحياةِ طالما أنّها متصالحةٌ مع مياه البحر ، وأنها تتحسسُ الجمالَ من حولها يمارسُ حضورَهُ الأبهى ، فينسيها الخوفَ من انفلاتِ الزمن ، واقتراب النهاية.. فها هيَ تقول:
(هذه اللحظات ،من شدةِ انغماسِها في النشوة، مرّت مسرعةً جدًا ..وظل طعمُها في خيالي ..وما زلتُ احبو إليه في كلِّ لحظةِ شرودٍ على أطرافِ الشوقِ الهَـرِم )
وهنا يحضُرُ الوجودُ برمَّته مع ” ضمَّةِ الوداع” حيثُ لا يُمكنُ الحيادُ بينَ الأملِ وبين انقطاعِ الرجاء ، بين الإمساكِ بنشوةِ العناق وبين الفراقِ الأبديّْ ..
الكاتبةُ نجحت في الإفلاتِ من القلق الوجوديّ وتركتنا نكابدُ حضورهُ الرهيب..
راحت تستمتعُ بجمالِ الغروب ِ وهو يحتضُن الشمسَ ويلفُّها بشراشفِ الشفق.. إنه المقدمة الأنيقةُ لاستقبالِ القمر ، وجعلتْ وراءَها أنَّ هذا الغروب ليس إلا نُقطةُ النهاية في سطورِ العمرِ المتآكل ..
إنها تمسكُ بالنشوة بأصابعِ قدميها وهي تلامس الأمواج، وبالتالي فهي غيرُ معنيّةً بنهاية العمرِ وانفلاته وانتهاء كلِّ شيء
اكاد اسمع صيحتها المدوية في وجه العدم
البطلة انتفضتْ …استيقظَت ذاتُها من دَعَـةِ الذهول من مهابة المشهد .. صعبٌ عليها أن يكونَ الجمال مقابلًا لوجودها ..مستحيلٌ أن يوجدَ شيءٌ خارجَ أسوارِها .. كيف لها أن تكون متداعيةً في مواجهةِ سطوةِ الزّمان؟!.. ها هي تهتفُ بالوجودِ والحياة معلنةً سلطانها المطلق ؛ تقول للشمس والقمرِ والنجوم والبحر والحياة ..أنا من أسبغَ عليكم نعمة الوجود .. عيناي جعلتا الأنوار تزهو وتأتلق .. عينايَ أخرجتكم من البلادة ..ذاتي الـمـتـَّقـدةُ صنعتْ أشرعةً وموانيء فصار للبحرِ معنًى وللريح مضمون..
ذاتي لها المجد..بها يكون الموتُ وتكونُ بها الحياة .. بها يكونُ الخالقُ وبدونها لا يكون … ذاتي امتدَّت في الأشياءِ فكانت..
ثـمَّ منحتها نعمةَ الوجودِ ، وأخرجتها من ركودها الأبدي .. ثم تنهي حلمَها بعنفوان الواثق القادر: